قنوات الظلام

فؤاد أبو حجلة

في ذروة هذا الجنون القومي الشامل تبدو العزلة خيارًا وحيدًا لمن يريد الحفاظ على ما تبقى من عقله ومن توازنه الذهني والنفسي.

أجهد في الحفاظ على هذا التوازن، وأعيش وحيدًا في عزلة اختيارية عن المحيط الاجتماعي، وأعاني من الملل والأرق والكوابيس، لكن هذا التعب لا يقاس بما يمكن أن يصاب به المرء السوي من غضب وقلق وتوتر.. وقرف من الهذيان السياسي والعقائدي في بلادنا المنذورة للظلام.

ليلة الجمعة استسلمت لنوبة أرق حادة منعتني من النوم، وقضيت الليل وأنا أتقلب على الفراش، وأقلب شاشة التلفزيون بين محطات التجهيل التي يكتظ بها لاقط البث الفضائي.

رصدت أكثر من خمسين قناة دينيّة بعضها يعلّمنا الاسلام وكأننا قوم من الكافرين، وبعضها يحثّنا على الاعتدال، وبعضها يدعونا إلى الأصوليّة ويروّج للذبح باسم الدين. وفي هذه القنوات الدعوية تحريض سني ضد الشيعة وتحريض شيعي ضد السنة، وتأليب سني وشيعي ضد المسيحيين.. ولا شيء عن اليهود!

رصدت أيضًا أكثر من عشر قنوات تنطق باسم المسيحية، وتخاطب العرب وكأنهم قوم من الجهلة الضالين الذين ينبغي تخليصهم من جهلهم وضلالهم من خلال إقناعهم بالأساطير، ومن خلال تحريضهم على الردة عن الإسلام.. ولا شيء هنا أيضا عن اليهود!

لم أعثر على قناة واحدة تنطق باللغة العربية باسم اليهود وتروّج لدينهم، وكأن هؤلاء لا يجدون حاجة إلى ذلك في ظل وجود هذا العدد من القنوات الدينية التي تتبنى خطابهم وتدافع عنهم وعن أساطيرهم بخطابها التجهيلي الصادم.

وقد استوقفني برنامج مستفز على قناة مسيحية تبث باللغة العربية من أمريكا، وتهاجم الاسلام بوقاحة مستخدمة مفردات سيئة مسيئة في وصف دين الأمة وفي الحديث عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

كان المذيع الذي يقدم البرنامج والذي يسمي نفسه "خادم الرب جعفر" يزهو بوقاحته حين يشير إلى النبي العظيم باسم "أبو حميد"، ويبدو من لهجة هذا المذيع أنّه من مسيحيي فلسطين أو الأردن، وهم المسيحيون العرب الأصلاء الذين يرفضون هذا الخطاب المنحط وينبذون من يتبناه، وكان ضيفه في الحلقة قسيس تافه اسمه سليمان نزال، يبدو أنّه من حثالات قساوسة حزب الكتائب والقوات اللبنانية التي تخوض حروب إسرائيل بالوكالة.

تركز موضوع الحلقة على نقد الإسلام والهجوم على المسلمين، وتلقى البرنامج اتصالات هاتفية عديدة يحمل أصحابها أسماء عربية ويتهكّمون في مداخلاتهم على القرآن الكريم ويسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم ومن رسالة الإسلام.

صدمني وجود عرب يحملون كل هذا الحقد على مجتمعاتهم وعلى شركائهم في الوطن، لكنني أعرف أن هؤلاء لا يمثلون إلا ذواتهم الوضيعة، ولا يمكن بأي حال اعتبارهم صوتا للمسيحيين العرب الذين شاركوا بقوة في القيادة والريادة للمشروع النهضوي القومي وفي النضال ضد أعداء الأمة.

لم يكتف البرنامج بشتم الإسلام والمسلمين والإساءة إلى رسول الله وخاتم أنبيائه، بل أساء إلى نبي الله عيسى عليه السلام حين قدّمه وكأنّه ساحر والعياذ بالله، ولم يشر إلى تسامح المسيح ورسالة المحبة والسلام التي حملها.

هل وصلنا إلى هذا القاع؟

نعم، ومن كان يظن أنّ الجهل والتخلّف حكر على طائفة دون أخرى فليراجع نفسه ويشاهد هذا الكم الكبير من القنوات التي تروّج للظلام باسم الإسلام وباسم المسيحية، وتريد إعادة العرب إلى عصر ما قبل الكهرباء لكي تظل إسرائيل سيدة للمنطقة، ولكي يظل اليهود يعيثون في الأرض فسادًا.

لست ممن يدعون إلى الحد من الحريات الإعلاميّة، لكنني أعتقد جازمًا بأنّ هذه القنوات التخريبية المشيعة للجهل مجرد أدوات تضليل تستخدمها المؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية والإسرائيلية لإشاعة الخراب وتعميم الظلام في بلاد العرب. وأستغرب كثيرا كيف يسمح لهذه القنوات أن تبث سمومها عبر الأقمار الصناعية المملوكة للعرب.

لا يحتاج أنبياء الله إلى من يعيد إنتاج سيرهم الخيرة، ولا يحتاج المسلمون والمسيحيون إلى النكرات لتجديد وعيهم.. لكنّه الزمن الأمريكي والإسرائيلي وهو زمن تتكاثر فيه الرويبضات مثلما تتكاثر البكتيريا الضارة.

تعليق عبر الفيس بوك