أن تكون بائعاً للشاي في الهند!

ليلى البلوشي

يبدو أن بائعي الشاي لهم حظ وفير، بل إنَّ مهنة بائع الشاي في الهند تحديدا هي مهنة أصحاب الطموح الذين يُمكنهم من خلال ممارستها -مع الكسب الجيد- التخطيط بهدوء لأحلامهم، أقول هذا وببالي ثلاث شخصيات عن بائعي الشاي في بلد كبير كالهند، حققوا إنجازات تستحق الإعجاب وتثير الدهشة أيضا.

الشخصية الأولى التي طرأت ببالي هي شخصية خيالية غير أنها تلامس الواقع الهندي وربما العربي أيضا، الشخصية الشهيرة جمال مالك في الفيلم الذي حقق نجاحا باهرا (المليونير المتشرد) وهي رواية كتبها فيكاس سواراب، المتشرد هو جمال مالك الطفل اليتيم الذي له أخ وتقتل والدتهما نتيجة الطوفان الطائفي ما بين الهندوس والمسلمين، هذا اليتيم الذي يختار طريقا مغايرا عن أخيه أحد أعضاء العصابات الشريرة، هذا اليتيم الذي يجد في مهنة إعداد الشاي للموظفين في شركة كبيرة فرصة لتحقيق أحلامه حين يحاول من خلال شركة الاتصالات الذي يعمل بها بائعا للشاي إلى محاولة الاتصال بالبرنامج الشهير "من سيربح المليون" ويقف الحظ إلى جانبه حين يحصل على الخط ويرشِّح اسمه، فيصعد منصة المليون وينالها بجدارة تثير إعجاب الجماهير الهندية الحاشدة، كما تثير في الوقت نفسه تشكيك وحنق رجال الشرطة ومقدم البرنامج؛ فالشاب المتشرد المعدم أنَّا له بهذا الكم الهائل من المعلومات، وتلك المعرفة الثقافية، وما هو في النهاية سوى بائع للشاي في شركة اتصالات كبيرة؟!

بائع الشاي الذي يستحيل إلى "المليونير المتشرد" الشهير يعطي العالم درسا لاسيما المثقفين والكتّاب منهم بأن إحدى أهم وسائل المعرفة وتعزيز الثقافة هو الاختلاط مع الناس والاقتراب من همومهم اليومية ومعايشة تفاصيلهم؛ كي يكون المرء صادقا كفاية وعلى درجة كبيرة من الخبرة التي يكتسبها رويدا رويدا مغموسة بمرارة التجارب الموجعة؛ فتكون زاده الحقيقي في هذه الحياة المتشككة والمليئة باللعنات والطعنات أيضا!

أما بائع الشاي الثاني الذي رسم طريق مجده فأصبح رئيسا للوزراء في الهند الحالي هو ناريندرا مودي، كان الثالث من بين ثماني أطفال لعائلة هندية بسيطة عمل في مراهقته بائعا للشاي في إحدى المحطات على الطريق السريع، وعمل أيضا في مطعم لعمال النقل البري بولاية غوجارات.

هذا الرئيس الذي يثير الجدل -قبل ترأسه ولايزال- حول حزبه المتشدد الذي كان قاتل غاندي أحد أعضائه، وموقفه أيضا من المسلمين في الهند وهو الملقب بـ"تاجر الموت" لا سيما موقفه من قضية حريق قطار في ولاية غوجارات حين كان واليا عليها، ووقف في صف الهندوس على حساب المسلمين، الحادث الذي كان عفويا وأصبح دمويا بل ومدبّرا؛ لعدم حكمة وربما طائفية رئيس الوزراء وقتئذ!

و على الرغم من جهوده الحثيثة على الصعيد الاقتصاد الهندي وهي لبّ برنامجه حيث وعد بأن يكون القرن الحادي والعشرون هو قرن الهند، غير أن عليه كرئيس لجميع الهنود بكامل أطيافهم الدينية، أنْ لا يكتفي بإعلان ذلك بل إثباته أيضا على أرض الواقع؛ لينعم الشعب الهندي بحياة كفيلة بإسعادهم وطمأنتهم على كافة الأصعدة!

أما بائع الشاي الثالث المميز حقا فهو لاكسمان راو وهو رجل في العقد السادس من عمره تقريبا، هذا الرجل المواظب الذي يتميّز شايه بمذاق طيب، يقبل عليه رتل كبير من الناس المتجولين من كافة أرجاء الهند، ومن يزور الهند سائحا أيضا، فمقهاه، الكشك الصغير المسجل من البلدية رسميا مشرع دائما حتى في أيام المطر الغزير.

ولد راو لمزارع يسكن في ولاية ماهاراشترا غربي البلاد، وانتقل للعيش في دلهي التي تعد مركزا لكبرى دار النشر الكتب باللغة الهندية وعام 1975م لتحقيق حلمه كي يكون كاتبا.

وهو ليس "بائع شاي عادي" البتة بل حامل لدرجة بكالوريوس وتقدم لنيل درجة ماجستير، هذا الرجل الذي لا يكل عن تحقيق طموحه لاسيما كمؤلف كتب حيث له مؤلفات تزيد على الأربعين كتابا، وهو يستخدم المنصات الإلكترونية ليبيع كتبه التي تحقق مبيعات جيدة، وهناك إقبال جماهيري عليها؛ فهو قريب من الناس، ومن مشاغلهم، ويحدث أنه يعرض مع الشاي مؤلفاته أيضا، فينتشلها باهتمام كل قارئ مهتم بتفاصيل الحيوات التي يرويها راو وهي في النهاية تلامس حياتهم.

وفوق إنجازاته التي حصد عنها جوائز عديدة، فهو إنسان تسمو روحه بالتواضع حين عبَّر قائلا: "يلجأ الكتّاب إلى العديد من الحيل لتسويق كتبهم وصناعة الأفلام ومسلسلات تستند إليها، إنني رجل بسيط أتلقى جميع رسائلي بالبريد، توجد كتبي في مكتبات المدارس والكليات والجامعات في المدينة ويُطلب مني في أغلب الأحيان أن ألقي محاضرات في العديد من المدارس والكليات في أنحاء البلاد، ما الذي يمكن أن يبحث عنه كاتب أكثر من ذلك؟".

بائعو الشاي الطموحون هم أنموذج حي في عالم ضاج بالعطالة والخيبات المرةّ وسوء الحظ المزمن، هم خير من يلهمون العجز في قلوب كل من هو يائس، كل من يعتقد أن طريق بلوغ الأحلام يبدأ بوسائل غير مشروعة، أو بسلوك درب ملتوٍ، كل من يعتقد أن النجاح هو ضربة حظ، أو أنه يجب أن يكون من الأعلى وحين يصل لمنتصف مبتغاه يسقط سقوطا مدوياً!

وحده الحقيقي يُدرك أنَّ المجد لا يبلغه الإنسان سوى من أول خطوات السلم، خطوة وراء خطوة حتى يصل لنهايته بصبر وأناة وكثير كثير كثير من التعب النفسي والجهد الجسدي وحين يصل سيشعر بقيمة وصوله القيّم.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك