الميزان البيولوجي



ابتهاج المسكرية

فكرت طويلا في الأسباب التي تزجني كل ليلة لصدر الكتابة زجًا.. تجعلني أطوف حول فكري بقلمٍ من أجل رشفة زمزم في صورة مادة أدبية.. يا ترى ما الذي يدفعني لهذا وكأنني أعيش في فوهة بركان جبل "أتنا" وفوقي سماء تمطرني نيازك، وفوهات البنادق مصوبة نحو صدري، والسباع تنهش ظهري؛ وأنا عزلاء من أي مظلة أو درع أو محض خوذة حتى.. وحدي مع قلم شرس يفترس الورقة تلو الورقة، ولا خبرة لديّ في ترويضه ولا حيلة سوى الاستسلام.

أبحث عن الإجابة وكأنّها السبيل الوحيد للفكاك من استجواب الذات التي تمارس بي فن العذابات؛ وكأنّها مدربة على أيدي عساكر سجن أبو غريب.. أصرّح بعد اللسع والضرب والكي: توقفي قليلا سأقول الحقيقة.. أكتب من أجل أن أظفر بفدان من أرض التاريخ، أحفر اسمي في وجه الزمن كندبة إثر مبارزة.. ألقنُ اسمي ذاكرة الخلود المصابة بالزهايمر.. أكتب بحثا عن الخلود؛ وإن كان هذا الخلود لن يوفر لي حتى وسادة أسند عليها رأسي في القبر.

ليس الخلود وحده أُم الغايات.. هناك أهداف خفيّة تتوارى خلف جدران القلب الدامس، لا تصلح للبوح؛ ولكن ما يصلح أنني أحتاج أن أكتب كما يحتاج الغواص لأنبوبة الأكسجين، ذلك أنّ الصوت المُتكدّس بحنجرة أصابعي ضاق ذرعًا.. يود الصراخ والصياح بالأبجديّة والحبر.. أن ينازل، ويحاور، ويلقي قذائف الهاون، ويرمي الورد والعطر من خندق المحبرة.. وهذه معدة قلبي التي تمتلئ بالهم والضجر والفرح والشوق، ولا سبيل سوى الاستفراغ على ورقة؛ لذلك ما أكتبه أحيانا يبدو نتنًا حامضًا.

ولكنّ الرهان الأكبر الذي أكسر لأجله "حصالتي" هو القارئ، وتلك العلاقة السحريّة الخاصة التي تجمعنا.. إنسان لا رابطة بيني وبينه سوى الهم والفكر.. يحترق معي حزنا وننطفئ سعادة، نتشارك الهزّات العقلية وعلى إثرها نكبر أو نجن؛ ثم إني أكتب من أجل الدهشة.. لذا حُبًا في الله توقفوا عن سؤالي عن جسور مقالاتي إلى أين تُفضي؟ لا أود أن أسير بكم إلى أي مكان.. كل الذين يكتبون في الصحف سائقون لمركبة قضيّة ما، يودون أن يأخذوكم إليها.. أما أنا فأكتب لأجل اللحظة؛ كموسيقي يعزف السيمفونيّة التاسعة لبيتهوفن، وحينما يرفع يده من مفاتيح البيانو نشعر بالانتشاء وقشعريرة تسري في الأوصال، ثمّ أليست اللحظة قضيّة كونيّة؟ فمن نحن سوى لحظة إثر لحظة مُتكدسة فوق بعضها بعضا؟ وأنا اكتب لأهز في لحظة ما وتر قيثارة القلب لتكتمل سيمفونيّة الحياة.

وبعد سيل الأسباب التي تحشرني في خرم الكتابة يفرض هذا السؤال الملح كشحاذ نفسه في الموقف هل الأسباب تفضي لنتيجة تستحق كل هذا الهدر من الوقت والصحة والصداقات التي أخسرها لشح تواصلي والتجمعات التي أحضرها -وما أقلها- بنصف كيان؛ ومع كل حديث وحديث أطلب على استحياء من المتحدث "عفوًا عيدي السالفة"؟؟ ذلك أنّ نصف الكيان الحاضر مشغول برش "بف باف" الذاكرة على مشهد أو منظر كي أنقل جثته لأدعم به مقالا أو قصة.. ولا يخفى عليكم ثورتي المفاجئة المنقطعة النظير أحيانًا حينما تستفزني كلمة "الزبدة" - أي الخلاصة- وأزعج من حولي بفضولي و"حشريتي" فاطلب أن أعرف الزبدة، ومن أي بقرة؟ وعلى ماذا تتغذى؟ ومن صاحبها؟ وكم عمرها؟ ذلك أنّ هذه التفاصيل المهملة على رصيف النسيان قد تشي بفكرة أسطوريّة تستحق الكتابة.

هذا الميزان البيولوجي ذو الكفتين الذي يسكنني كل يوم هو في شأن؛ ثمة ساعات يرجح الكتابة، وأن أُلقي تحت قدميها كل ما أملك "فمن يطلب الحسناء لم يغلها المهر" وأحيانا كثيرة يرجح أن ألوذ بنفسي وأكتفي بالعيش.. ذلك أنّ من يعشق القلم كثيرًا ما ينسى أن يعيش.

e.k.a-00@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك