جدي "السوبر مان"

مريم العدوي

بعد جهد طويل، استطاعت الصغيرة ذات الخمسة عشر ربيعاً الوصول إلى كتاب "هكذا تكلم زرادشت" بنسخته الإلكترونية، الآن تُعيد السطر بعد السطر في محاولات عقيمة؛ لتفهم أي رجل خارق ذلك الذي يعنيه فريدريك نيتشه؟!

لم تفهم كل شيء أو ربما لم تفهم شيئاً، ولكنها على يقين بأن ثيمة زارا عند نيتشه محض خيال، ليس إلا!

تذكُر أنها كانت قبل أعوام قليلة لا تستسيغ حلة الأكشن الجديدة في الرسوم الكرتونية؛ حيثُ تجدها باردة على خلاف ما ألفته من حياة في قصص الدراما الكرتونية القديمة، لكنها كانت تتوقف عند سوبرمان والرجل العنكبوت!

تسترقُّ الصغيرة النظر إلى منارة المسجد. ترى الجد من هناك يفرد جناحيه ويهمُ بالطيران، وفي السماء تلمحهُ يرتب مطر ذاكرتها؛ لينهمر ماء السرد النابض بالحياة عليها، ويعيد أبجدية الأشياء من حولها، وهالته تتراقصُ كطيف يتلاشى من على الزوايا؛ ليعود شخصه وينتظم في صورِ أخرى.

تراه فجراً وقد استعار جناحيْ نسر، بينما تراه في المساء قنطوراً يحاكي الرياح في عربدتها بين الجبال والسهول.

تقرع طبول قلب الصغيرة بعنف وهي تسترق السمع، وتتلصص من الزوايا هالة الجد، وكلما لمحتهُ تسرع بدس عينيها؛ لترقب عن كثب الحكاية المزخرفة بوشاية الفنتازيا الباذخة الدهشة.

تسقط الزوَنْ على الفراش؛ فيسري الخبر كالنار في الهشيم. الصغيرة الآن في عالم غير الذي جاءت منه بأجيال، بينهم وليست بينهم؛ تراهم ولا يكادون يحسون بها.

تلك الأزقة المعتقة بروائح الأسلاف المخضبة بالتعب والغواية تمدُّ لها من الوشاية، ما يهبُ لها من زيت الحكايات ما هو جدير بإسعاف جنونها؛ لتستحيل فراشة وتطلق العنان لكل تلك الدهشة.

قال خلفان ود مرهون: (راعي العوايد ناوي ياكلها).

العيون تتلقف الخبر بعتب كبير، والأفئدة المرتبكة بخيوط الحكاية تتوسد زمن غابر، وحدها الصغيرة فاغرة الفاه ومفتوحة العينين بكل اتساعهما، بينما خيول تنقع غبارها ثائرة على عتبات فؤادها الغض.

مسعود بن حمدان راعي العوايد.. تلك الجثة فارعة الطول، والعيون الغاضبة في كل حين، وجدت هذه المرة صيدها في الزَوَنْ، وشوشت حميدة راعية الجلبة جارتها سالمة بقولها: "جابته حال نفسها، شاله وقر هين كباره وحدها"، الأخرى أومأت برأسها بأسى؛ لتوافقها الرأي.

حكايات أمي المطرزة بصور هذه الوجوه الكثيرة الماثلة الآن أمامي يعود صداها؛ ليرتفع عالياً واخزاً خاصرة الصمت الذي أرخى سدوله على الجدران الطينية، حيثُ وحدها فناجين القهوة تناجي رائحة الهال ونكهة الغواية.

أجلس القرفصاء على روزنة الجدار الشمالي لغرفة الزون، ألمح طيف جدي هذه المرة بعمامة بيضاء، على قلق كأن الريح تحتي أجمعني وأدسني في صباح الطريق المؤدي إلى المسجد.

يمسدُ لحيته الوقور ويتمتم بحديثِ خافت، ومن ثم يرتقي إلى المأذنة المتوسطة العلو.

يتغلغل الأذان إلى الأعمق من أغواري، ويخضبُ كينونتي بدفء روحاني، أجدني خفيفة وتغيب عني الرجفة. ذلك الرجل الذي يرتفع من قلبه نداء الرب لا يخيف بتاتاً، بل و يبدو أقل هشاشة من أن يعاتبني!

سمعتهم إذ أخبروه أصيل اليوم التالي بأمر الزون، لم ينبس ببنت شفه فقط أسبل جفنيه، ومن ثم مضى إلى حال سبيله مُطرقاً رأسه وكأن هماً ثقيلاً نزل عليه دفعة واحدة.

كان جسد الزون يتفصد عرقاً بارداً وعينيها الزجاجيتان ترتج عدستهما بلا توقف، وكنت أجسُّ نبضها في محاولة مني لأتيقن بأنها خشبة كما كانوا يزعمون؛ قالوا: بأن هذه ليست سوى خشبة مسحورة، الزون في قبضة راعي العوايد!

كانوا يبكونها بصمت، فهم ما زالوا دون يقين بحالها.

(ذهب وأرجعها جدي).. أرجع الزون ورمى الخشبة في وجه راعي العوايد وكسر أنفه. أنزل جدي الزون من علو فرخة السقف، واستقرت حينها وعليها ثوب العافية في فراشها وكأن شيئاً لم يكن!

ينتفض جسدي حالما تلسعني كلمات أمي تلك، وألمح من نافذة الغرفة جدي بعصاه الغليظة يقطع المسافة مسرعاً وعينيه تقطرُ وعيداً، أركضُ باتجاه عتبة الباب، أكاد ألمح بعضه في أقصى الطريق، أجدُ السير؛ علني أراه، لا أصل إلى هناك وتلتقي عينانا!

ذبح ود سالمين زوج الزون كبشاً ووزعه على كل أهل الحارة. ود العوايد لم يفتح دكانه في صباح ذلك اليوم، وجدي ظل طيلة الصباح عاكفاً تحت الفحل يُقَسِم أثر الفلج على أصحاب المزارع.

أصبتُ بصداع شديد جراء بحثي العبثي عن الرجل الخارق في سطور نيتشه، وعندما مرّ في المساء أخي ووجدني عاكفة على الشاشة أدارها وقرأ بعضاً من سطور الكتاب، رسم خطاً ساخراً بشفتيه وانصرف.

الأنثى الصغيرة بداخلي تختبئ وتطل الفتاة الشقية، أداعب أمي مطلقة المجنيق الذي مزق سكينة الحكي:

-إذن جدي كان سوبرمان زمانه!

دائماً ما تُغضِبُ مداعبتي على هذا النحو أمي، تهمس لي لأخرس فللجن أسماء يعرفها أصحابها فقط!

علت الأصوات، وتصارعت في ذاكرتي روائح تلك الحكاية حالما نبشها عنوان كتاب صاخب، وجدني إثر مصافحتي لرفوف المكتبة...الآن أجوب صحاري (السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة).

هذه المرة أتلو بهدوء لا لأبحثُ عن جدي السوبرمان، ولكن لأبحثُ عن اسم جدي المُستعار!

تعليق عبر الفيس بوك