عين الصحافة ومقص الرقيب

مسعود الحمداني

عايشتُ الصحافة المحليّة منذ منتصف الثمانينيّات، صحافة تحفر في الصخر، وتحاول أن تحقق منجزها التنموي، في ظل رقابة (أبوية) ـ آنذاك ـ تعتقد أنّها قادرة على التحكم في الأمور، وإسماع المسؤول ما يحب سماعه، لا ما يجب أن يسمعه، ورغم تلك الرقابة الصارمة التي كانت تتدخل في كل كبيرة وصغيرة، وتحاكم حتى النوايا، نجحت هذه الصحافة إلى حد ما في تغيير الكثير من العيوب التي تصاحب كل مرحلة من مراحل البناء بصوتٍ عاقل، ومتوازنٍ و(مهذّب ومشذّب) كثيرا.

اليوم تواجه الرقابة في هذه الصحافة والإعلام بشكل عام الكثير من التحديات، أولها أنّ ما لا ينشر في الصحيفة الورقية، يمكن ان يتسلل بسهولة عبر المواقع الإلكترونيّة، وصفحات الفيسبوك، والتويتر، والمنتديات، وما كان بالأمس القريب مهذبًا جدًا، أصبح اليوم ذا صوت عالٍ يمكن أن يسمعه حتى الصم والبكم، وبلغة جافة، وغير دبلوماسيّة قد تزعج المسؤول، وتثير الكثير من اللغط الذي لم يعتاده.

وما كان يمكن التحكم به قبل سنوات، أصبح اليوم بعيدًا عن السيطرة، بل إنّ ما يحدث في دولة ما، يمكن أن يصبح قضيّة رأي عام في دولة أخرى، لأنّ كل كاتب لديه سلسلة من القراء والمتابعين في المنظمات الحقوقيّة العالميّة، يمكن أن يثيروا زوابع من لا شيء، سواء كان ما يكتبه هذا الكاتب صحيحًا، أو لا..ورغم كل محاولات السلطة الرسميّة في كثير من الدول إسكات الصوت المعارض إلا أنّ ذلك أصبح أمرًا بعيد المنال، وصار لا بد أن تكون هناك مرونة أكبر في عملية الرقابة، وعلى الرقيب التقليدي أن يرمي المقص الذي كان يهدد به الكاتب والصحفي، ويستعيض عنه أدوات عصرية وفكرية أكثر إقناعًا، وتعقلا، وأن يترك له مساحة أكبر للمناورة، والكتابة، وأن يكون القضاء هو الفيصل في حال التعدّي على حريات الآخرين وخصوصياتهم، أو في حال نشر تقارير أو أخبار كاذبة تسيء لثوابت المجتمع، كما هو الحال في دول العالم المتحضرة، لأنّ على الصحفي واجبات كما أنّ له حقوقًا، تمامًا كبقيّة المواطنين.

الصحافة في كل العالم وُجدت لتكون صوت المواطن وضميره، وجاءت لتكشف ما خُفي عنه، وما يحاك من ورائه، وما تفعلهفئات (فاسدة) في المجتمع، تحاول تجهيله، وتهميشه، وأكل حقوقه، ولذلك سميّت (السلطة الرابعة)، فهي تقوم بعملٍ جبّار يعالج الخلل في المؤسسات، وفي الدولة، وعلى المسؤولين أن يقرأوا، ويزنوا ما يُكتب بمكيال الدقة والصحة والواقعية، وعلىالمسؤولين أن يعوا أنّ الصحافة أصبحت اليوم أكثر شراسة، وقوة، وانتشارًا، وأنّ الجرائد والصحف الورقيّة لم تعد وحدها في ميدان المعركة، بل إنّ وسائل التواصل الاجتماعي هي الفارس (الأسود) الذي لا يمكن أن تحده سلطة، ولا تقف في وجه دوره عين رقيب.

تطالعنا الصحف المحلية منذ سنوات بكتابات ذات سقف عالٍ من الحرية، فيها الكثير من (الجرأة)، والحساسيّة، ورغم بعض المضايقات التي يجدها الكتّاب أحيانا، إلا أنّ الشارع أصبح معتادًا على مثل هذه الآراء، والأفكار التي كانت محرّمة ذات يوم..وأصبح المسؤول أكثر فهما، وتفهمًا لدور الصحافة الجادة، كما أصبح الصحفي أكثر وعيًا ونضجًا لممارسة دوره الرقابي، والتنويري للمجتمع، مع أنّ الطريق لصحافة أكثر حرية وتحررًا ما زال طويلا، وغير مفروش بالورود، ولكنّه قدر الكتابة والكاتب في كل مكان وزمان.

ملحوظة:

مثل هذا المقال (الأكثر من عادي) ما كان له أن ينشر دون بترٍ وقصٍ وتحويرٍ قبل سنوات قليلة..فسبحان من يغيّر ولا يتغيّر!!

 

Samawat2004@live.com

 

 

تعليق عبر الفيس بوك