الأخلاق باعتبارها غريزة

نوف السعيدية

يُنظر للأخلاق عادة بأنّها نظام وجد لكبح غريزة الإنسان. الإنسان الطمّاع، والشهواني، والمؤذي بطبيعته. لكن مع التفكير مرة أخرى بالأمر يمكن القول أنّ الأخلاق ليست مضادة للغريزة بل نابعة منها. فكرة الأخلاق كما تقدم اليوم شاعرية لدرجة غير واقعية. فأنت إذا جعت قد تجد السرقة مبررة وامتناعك عن السرقة ليس لأي سبب رومانسي ولكنك تفكر بأنّ هذا ليس في مصلحتك، أنت لا تسرق اليوم لأنك لا تريد التعرض للسرقة لاحقا. والأمر ينطبق على أي أذى يمكن إلحاقه بالآخرين. أنت لا تؤذي لأن "عدم الإيذاء" فعليا يحميك، ويحقق لك شيئا من الأمان.

لا يمكننا إنكار وجود التنافس بين الكائنات الحية (بما فيها الإنسان) في صراعهم من أجل الحياة، ولكنه صراع أخلاقي أي أنّه منظم بفعل شريعة فطرية. وهذا تمامًا ما يقول به أنصار الداروينية الاجتماعيّة: "إذا تركنا الطبيعة تجري مجراها في التنافس الحتمي بين الكائنات البشرية، فإنّ إرادة الخير ستنتصر، وإرادة الشر ستفنى، وسوف نعيش جميعًا، حتى الفاشلين والمهزومين، في أفضل العوالم الممكنة".

الأخلاق والدين

يتحدث كريستوفر هتشنز[1] بظرافة حول ارتباط الأخلاق بالدين فيقول: "هل يتوقعون مني أن أصدق بأن أسلاف أمي (وهم يهود)، وصلوا إلى سيناء في رحلة شاقة ظانين - قبل أن يصلوا هناك- أنّ الاغتصاب والقتل وشهادة الزور أفعال جائزة، إلى أن أتاهم النبأ السيء عند سفح جبل موسى: "كل هذه الأفعال محرمة!" لا أعتقد هذا. لا يمكن لأناس أن يبلغوا جبل موسى، بل وأي جبل آخر، إلا لو كانوا يعلمون أن التعاضد الإنساني يتطلب أن نعتني ببعضنا كالإخوة والأخوات.. إن هذا شيء فطري فينا."

يرى البعض أنّ الأخلاق لا يمكن أن تقوم بدون الدين. عندما نقول بأنه لا وجود للأخلاق بدون دين، فهذا يعني إنكارنا لوجود "الحس السليم" أو "الفطرة السليمة" التي تفترض الأديان وجودها، بل وتفترض أنها هي بالذات وسيلة الوصول إلى "الدين الحق"! والأجدى هو أن نفكر بالدين باعتباره أحد مصادر الأخلاق وليس المصدر الوحيد.

الأخلاق والقانون

الأخلاق قد تكون أحد مصادر اشتقاق القانون، ولكنها تعنى أيضا - وبشكل خاص- بتنظيم الأفعال الصغيرة التي تبدو أتفه من أن يغطيها القانون، والمتعلقة غالبا بالذوق العام تلك التي لا تنطوي على إساءة - أو لا تنطوي على إساءة بالغة- للآخرين.

الحياة الأخلاقيّة للحيوانات

في كتاب العدالة في عالم الحيوان المؤلَف على يدي أستاذ علم الأحياء مارك بيكوف، والفيلسوفة جيسيكا بيرس يطرح الكاتبان نماذج للسلوك الأخلاقي الموجود عند الحيوانات الإجتماعية كالذئاب، الفيلة، الكلاب، القردة، الفئران. ومن الأمثلة على ذلك: العون الذي تقدمه الفيلة الأقوى للأضعف. أو رفض الجرذان دفع رافعة تؤمن له الطعام عندما يجد أن ذلك يؤدي لصعق الجرذ الموجود بجواره حتى وإن استمر جوعه لأيام. وغيرها من سلوكيّات التعاون، والإيثار، التي تؤكد على سعي الحيوان لمصلحة الجماعة التي يعيش ضمنها. متخليا في خضم ذلك عن مصلحته الشخصية، وعن جزء من حريته مقابل أن يُصبح عضوا فاعلا في الجماعة.‏

بداية يُعرف الكتاب الأخلاق بأنها "السلوكيات الموجهة نحو الآخر، والتي تساعد في تنمية وتنظيم التفاعلات المعقدة داخل الجماعات الاجتماعية"[2] ويُعرف المسؤولية الأخلاقية بأنّها "الاختيار الواعي للتصرف بطريقة معينة بدلا من طريقة أخرى استجابة لمعضلة أخلاقية"[3] ولا يفوت الكاتبين الإشارة إلى نقطة مهمة وهي نسبية الأخلاق حيث يقول الكتاب: "العدالة مرتهنة بالموقف. فما هو مقبول في سياق اجتماعي معين قد لا يكون مستساغا في سياق آخر"[4] .

قد يطرح البعض سؤالا مهما كيف يمكن للأحياء مساعدتنا في فهم قضية فلسفية مثل الأخلاق؟ ويمكن الإجابة بأبسط الطرق عن ذلك بالقول أن الأحياء تساعدنا في فهم دوافع السلوك الحيواني وتتبع تطوره ومساهمته في تكيف الكائن مع بيئته.

الأخلاق المنظمة لعلاقتنا بالآخر - كالتعاطف، أو مراعاة مصالح الآخرين، وعدم إيذائهم- تحتم وجود بعض الآليات المساعدة، أولها آلية للوعي بالآخر. بالنسبة للبشر فقد وجد أن أدمغتنا تحوي "عصبونات انعكاسية" تسمح لنا بفهم سلوك الآخر عبر المحاكاة أي وضع أنفسنا مكانه والتخيل بأننا نسلك سلوكه. وقد تكون هذه الخلايا هي أساس قدرتنا على مشاركة الآخرين شعورهم. [5] هناك آليات أخرى تأتي لاحقا لتعزيز السلوك الأخلاقي منها تنشيط مركز المكافآت في الدماغ عند القيام بسلوك أخلاقي. هذا يُفسر شعورنا بالمتعة عند القيام بعمل تعاوني، أو شعورنا بالراحة عند مساعدة المحتاجين.

وحتى نعود للفكرة الأساسية للمقال استشهد بما يقول الباحثان في نهاية كتابهما: "يمكن اعتبار السلوك المكيف أو الغريزي أخلاقيًا. وحقيقة الأمر أنّ البحث يوحي بأن جزءًا كبيرًا من الأخلاقيات البشرية مكيفة وغريزية." الخلاصة هي أن الأخلاق كما تبدو - كأي سلوك حيواني آخر- غريزية، متغيرة، وقابلة للتطور.



[1]قد يُلاحظ أن الرجل متحامل على الدين بشكل عام لكني شخصيا أتفق معه بخصوص هذه الفكرة تحديدا

[2]العدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات، مارك بيكوف وجيسيكا بيرس، ترجمة فاطمة غنيم، صادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى 2010، الصفحة 168

[3]المصدر السابق، الصفحة 282 بتصرف

[4]المصدر السابق، الصفحة 255

[5]المصدر السابق، الصفحة 73

تعليق عبر الفيس بوك