الخزام


عائشة البلوشية
ما أجمل البراري في بلادي، وخاصة عندما يهطل الوابل على صحارى عمان الغالية، فينزل الغيث راويا عطش الأرض، لتتنوع الأعشاب، وتزهر الأرض التي نظنّها جدباء، وترتدي حلة معطرة من زهور عطرية وطبية وصبغية، فيحتار ممن هم في درجة حبي لخضرة الأرض بين القرينوة والحواء والحماض والترثوث والخزام والظفراء والسيداف والأرطأ والحرمل والفقع وغيرها الكثير من قاموس أعشاب الصحراء وزهورها، فينتشر النحل بين الزهور وأشجار السمر لينفحنا بخلايا العسل (عسل البرم)، التي يجدها من يختص بجني العسل في كهوف الجبال المحيطة بنا، أو متخذة من أشجار السدر والغاف - كما أوحى إليها ربها- ملجأ لها، ومثلما للقرينوة -عشبتي المفضلة- رائحة أخاذة، فكذلك الحال للخزام (الخزامى) رائحة مميزة جدا، اعتبرها خبراء الأعشاب من الروائح التي تبعث في النفس الراحة والهدوء، وتستخدم كثيرًا في مراكز العلاج الطبيعي ومراكز العلاج بالأعشاب، لذلك فالمتجول في الصحراء بعد مواسم الأمطار يعود وقد شحن بطارية أنفاسه وروحه بطاقة إيجابية قوية..
وبرغم الاستهلاليّة التي أخذتكم خلالها في جولة عبر سيوح بلادي بعد مواسم المطر، لكنني اليوم لست بصدد الحديث عن زهر الخزام وفوائده، بل عن شيء مشابه في الاسم مختلف تمامًا في المعنى والاستخدام، وحقيقة أنّ ما دفعني للكتابة عنه هو أنني كنت في نقاش في إحدى المجموعات الافتراضية حول الأمر، واستجرت بالشيخ جوجل علي أجد ضالتي، ولكن وبالرغم من أنّ هذا الاكسسوار هو من صميم لباس البدوي والحضري العماني الشجاع، لم أجد له ويا للأسف أي ذكر، وحقيقة وجدت العديد من الصور الحديثة التي يرتدي عارضو الأزياء أو المذيعون فيها هذا الخزام، لكن لا شرح ولا إشارة له ولو على استحياء..
والخزام بتسكين الخاء هو ما يربطه الرجل على عمامته، ويختلف عن العقال، فهو مصنوع من الصوف وينتهي بحلقة مستديرة من الفضة في أحد طرفيه، وبسلسلة فضيّة يعلق فيها الرجل ما يشاء من مصوغات فضيّة كالمنقاش أو غيره في الطرف الآخر، وللعودة إلى اسم الخزام وسبب تسميته بهذا الاسم، فإنّ هذا الخزام هو رمز للشجاعة والإقدام لدى البدوي والحضري معًا، وكل من يرتديه يعتبره الجميع صنديدًا ذا بأس شديد، ﻷنّ الخزام أساسًا يستخدم لخزم البعير العنيد أو الناقة العنيدة، حيث يعمد المضمر أو صاحب الإبل إلى خزمها من أنفها بإدخال تلك الحلقة الفضيّة، ليذعن له ذلك الحيوان الثائر ويرعوي، ويصبح هادئًا وطوع أمره، وبالطبع لا يمكن لأي كان أن يمسك ببعير غاضب بسهولة ليخزمه، لذا فإنّ مرتدي الخزام معروف بالجلادة والإقدام، كما أنّ للخزام مآرب أخرى، وهو المحافظة على ثبات العمامة على الرأس عند الارتحال في الصحراء، وهبوب العواصف الرمليّة القويّة...
وبالطبع فقد دخلت على الخزام إضافات فضيّة عديدة، كغيره من الإكسسوارات الرجاليّة، ولا يزال العديد من الرجال والشباب في مختلف المحافظات يرتدون الخزام، وخصوصًا في المناسبات كالأعياد والأفراح، وبعض كبار السن يصرون على ارتدائه بشكل دائم..
إننا اليوم وبرغم الرفاهيّة التكنولوجيّة، والطفرة المعلوماتيّة والتقنية الهائلتين، نعيش في عالم مليء بشحنات سلبية، ما بين حرب وضرب، وشحناء وفرقة، وما نشاهده اليوم من عواصف المشاكل المتنوعة حولنا، والتي باتت الإنسانية تمر في متاهاتها، وتسحق بين مطرقة تنصلها، وسندان أعذارها الواهية، استغرب لم لا يعتمر كل منّا خزاما ليخزم أنف المشكلة، ويطوّعها تحت قدميه؟! شريطة أن يكون الخزام مغزولا من الإيجابيّة الصرفة، وأن تكون الحلقة المدلاة في نهايته مصنوعة من التعقل والهدوء، والبعد كل البعد عن الأهواء المغرقة في الإنجرار وراء شعارات زائفة أو كلمات رنانة، بل التمسّك بعصمة الحكمة والعض عليها بالنواجذ، ليتمكن العالم من مواجهة الشر والعيش في سلام، لماذا نبحث عن أخزمة غيرنا لنستخدمها في تطويع المشكلة؟! وما نلبث أن نلطم الخد حسرة على ما خسرناه، لماذا نترك للمشكلة أن تستخدم خزامها لتزرعه في أنوفنا ونصبح رهينة لها.
توقيع: "قديمك نديمك.. إخزم أنف المشكلة التي أمامك وكن قوي الإرادة وواجهها بإيجابية وشجاعة".



تعليق عبر الفيس بوك