بيان المغتربين

أمل السعيدي

في كل مرة أجلس فيها مع نفسي، أصرُ على أن أعلمها أنّ شرط الحياة يتجاوز ما يحاول النظام إقناعي به، إنني لأحيا لابد وأن أشتغل على ذاتي، على معرفتها وتحقيقها، وأنّ هذا الاشتغال لابد وأن يخضع لمعايير حقيقية، فلكي أكون كاتبة جيدة لابد أن أعمل لكي أصبح كذلك مقارنة بمن سبقوني إلى الكتابة في العالم أجمع، وألا أقنع بتفوّقي على أقراني هنا. لأنني إنسانة مثلما كان ماركيز إنساناً، ونجيب محفوظ إنسان، ومحمود درويش إنسان، لكن الفرق بلا شك يكمن في مدى أصالتي، في مدى صدق التجربة ووعيي بها. عليّ إذن ألا أوفر دقيقة واحدة دون سبر أغوار هذه التجربة، وصقلها، عليّ أن أؤمن بهذا الطريق الوعر الذي سأخوض فيه، على أن تكون الأهداف النبيلة في مرمى عينيّ طوال الوقت.

من السهل جداً أن تصبح مقبولاً ككاتب في الأوساط الثقافية هنا، وأن تعجب الجمهور، لكن من الصعوبة بمكان، أن تقدم تجربتك الفريدة، أن تعلن عن فردانيتك وحقك الأصيل بها حين تقدم الجديد والمبتكر والصادق حتى وإن صدم ذائقة القارئ والاتجاه العام في البلد الذي تعيش فيه. لأنّ إيمانك هذا يدفعك للثقة بتجربتك، لتصديقها، والتعويل عليها، لأنك ترغب في أن تستمر هذه التجربة في العيش، وأن تجد مداها الرحب، وأن تجري فيها إلى الأبديّة. لا يعيش اليوم كولن ولسون فيزيقياً، لكن عمله الخالد "اللامنتمي" باقٍ وسيبقى. لا تعيش دوريان لوكس، لكن بيتاً شعرياً من إحدى قصائدها تقول فيه: "يأتي الله إلى نافذتك/ ضوء ساطع وجناحان أسودان/ وأنت من شدّة تعبك/ لا تقوى على فتح النافذة." يؤلف أيامي منذ أربع سنوات.

أريد أن أكتب لا لأنقذ البشرية، بل لأنقذ نفسي، تماماً مثلما عبر بوكوفسكي عن كتاباته، يكفيني هذا الجريان مع العامة، يكفيني السير مع الجماهير التي تحفر في الأرض من أجل حياة مُرضية وأريد أن أركن إلى نفسي التي تمزّقها هذه المشاركات العامة، مثلما تمزقها الحياة، حين تتجاذبها، وتدفعها للركض حتى فيما لا يعنيها باسم الحضارة والنظام. لو أننا نظرنا للإنسان لوجدنا أنّ آلامه واحدة، منذ نشوء العالم، لكننا في كل مرة ندعي فيها التقدم، نتوارى أمام أقنعة أكثر، قرأتُ للإغريقي سوفكليس الذي ولد حوالي496 ق.م. عمله التراجيدي "فليكتيتس"، هذا البطل الذي يُترك وحيداً في جزيرة بعيدة، مصابة قدمه بالغرغرينا، مظلوماً ومبعداً، دون أن يهتم لأمره أحد، لو أنكم تقرأون كلامه الذي كان يقوله وهو يتألم ويتمنى لو يمسك بسكين يقطع فيها قدمه المصابة ليتخلص من ألمه، لوجدتم أنفسكم في ذلك الصراخ، لعرفتم أن سوفكليس لم يعبر عن إنسان بعيد يتألم، وأنّ الألم فطري، وجميعنا مجبولٌ عليه، جميعنا مشاء في موكب الأوجاع والعذابات. ولعل خلاصي الأخير يكمن في هذه الكتابة، في إعلاني لهذا الألم، في مشاركتي لهذا النزاع الوجداني مع الآخرين. حتى يصبح هذا الألم محاصراً، منكفئاً في كلمات. حتى تتكوم طاقةٌ داخلية وتوتر داخلي يحتمل آلامي كلها في قصيدة أو في عمل أدبي أيا كان جنسه ونوعه.

أنا متعبة، وأشعر بأني سأنفجر، ولأنني إنسانٌ مصابٌ بحياته، مفجوع بوجوده، يعني هذا أنني أقول ما أتجاوز به حدوداً كثيرة للكلام، فإن أنت وضعت قواعد لهذا الكلام، تحدد بها هذا التجاوز، منعتني إذن عن التلاقي مع تلك الحدة الخارقة التي أتلاقى فيها مع وجعي الحقيقي، من قال إن القصيدة عليها أن تكون موزونة ومقفاة؟ من قال إن شعريتي غير حرة، من قيّدها؟ من قال إنّ العمل الروائي الذي سأكتبه عليه أن يعالج شخصيّاته مثلما سبقني إلى ذلك، عبدالرحمن منيف، أو إيرنست هيمنجواي؟ من قال إنني لأغني عليّ أن أفعل بطريقة فيروز أو البيتلز؟ إنّ الجوهري هو أن أقول نفسي، أن اطلقها، وأن تحلق بي بعيداً عن زنزانة الوجود.

فليذهب المجد إلى الجحيم، لأبقى أنا حياً، يضايقكم بتوتره عندما يكتب عنه مثلما يريد، تضايقكم حريته، وحده الإنسان الحر، يحب الحرية والأحرار، وحده يؤمن بذاتيّة الآخر وبقدرته وحرّيته على الخلق والتجلي. أنا أهدي هذا المقال للأصدقاء الذين يعيشون في مجتمعنا غربة لا أصل لها، غربة الرفض الاجتماعي. للصديقة التي لا تستطيع الإعلان عن اسمها الحقيقي عندما تكتب قصيدة، للمعرفات المستعارة على الفيس بوك، للشاعر الذي كتب قصيدة حداثية وهوجم لشعره الصادم وأصالته. أكتب لكم. حان الوقت لأن نفهم غربتنا الأكبر، غربتنا الحقيقية، غربة الوجود، لأننا جميعاً ناس مثل الناس في كل مكان وزمان، تعاني كواهلنا من فرط حمل الجدران، ولا يهمنا إن هزأ بنا أحد؛ لأنّ كواهلنا مؤهلة لأن تحمل شيئاً ثقيلاً كهذا، لأنني مؤمنة أنّ الجميع يحمل ثقلاً على ظهر هذا الكوكب وأولئك الهازئون بك يحملونه على مكان آخر، مكان لا يعرفونه حتى يؤمنوا بكهلك، بكتفك، بك، وبكواهلهم، بأنفسهم.

تعليق عبر الفيس بوك