من غشنا صار منا

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

ما أصعب الكلمات عندما تتحدر من الوجع، وما أصعب الكتابة، عندما لاتطاوعك على ممارستها، فجأة تشعر بأنّ حياتك الجميلة وهم كبير، وأنّ حلاوتها ماهي إلا مرارة علقم، وتجد نفسك بين فكي إمّا أن تعيش ميتا، أو تموت حيًا، وكلاهما خيرتُ بين أمرين أحلاهما مر، لاشيء يسرق الفرح أكثر من رؤية طفل معذب، ومنذ أن ولدنا نحن جيل القومية العربية، وآلام هذه الأمة تسرق طفولتنا وشبابنا حتى هرمنا واشتعل الرأس هما وكدرا، فمتى لهذه الأمة أن تنهض من كبواتها وعثراتها ؟

عندما كان السلف الصالح يراعي الله في كل صغيرة وكبيرة، كانت بائعة اللبن الفقيرة تردد ( إذا كان عمر لايرانا فإن الله يرانا) كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكان من غش ليس منا بالفعل.

إنّه حديث موغل في التربية، وعلم النفس، لبناءالشخصية الإنسانية، رويت عدة روايات وعلى عدة وجوه هكذا (من غشنا فليس منا، من غش فليس مني، من غش فليس منا) وخلاصة هذا الحديث النبوي الشريف تؤكد أنّ الغش ليس من دين محمد، ولأنّه حديث صحيح فهو ينطبق على الإنسان أينما كان وفي أي زمن يكون، فالغش مرض ينهش في شخصية الإنسانفتتردى، وتسوء، وتنحدر، وهو مرض يكنس القيم الأخرى معه فمن طاب له الغش طابت له السرقة، واستساغ الكذب، واستساغ القتل، واستساغ الحرام أينما كان مصدره.

ومن مفارقات المسلمين اليوم، أننا نرى الواحد منهمخاشعًا راكعاً ساجدًا صائمًا مصليًا، حاجًا معتمرًا، متدينا، يلوك في فمه قال الله، وقال الرسول، لكنّه إذا وقعت بين يدية أمانة وهي من أموال المسلمين، أو لنقل بلغة معاصرة هي أموال الدولة، وملك للشعب والمجتمعتراه يتقاسم مع الناس حقوقهم، وينهب ما شاء له النهب منها، لكنه قد يعيد نعالا اشتراه وبه عيبًا مخفيًا إلى البائع مكشرًا عن مخزونه الشفاهي : يا أخي اتقِ الله(من غشنا فليس منا) ولا يتذكر مطلقا أن يطبق هذا القول على مافعله بأموال الناس.

من غشنا ليس منا، ونحن نغش في تربية أطفالنا فنقول لهم عكس مانفعل ولا نقدم القدوة الصالحة ألا بما يناقض قولنا فعلنا، فيتعلم الطفل الغش منّا ويتشرّبه منذ نعومة الإظفار، فإن أخطأ لايعترف ويكذب وفقا لما يرى من والديه ومعلميه في المدرسة والكبار من أفراد أسرته من ممارسات يوميّة متناقضة، تُكوِّن شخصية مرضية منفصمة ذات موروث شفاهي جميل لكنه ليس للتطبيق، مع سلوكيّات بغيضة منغرسة في أفعاله.

كسرت الطفلة الأجنبية كأسا فخافت أن تعود أمها وتعاقبها لكن الشاب العربي الذي يقيم مع أسرتها هدأها وقال: لاتخبري ماما وسأشتري لك آخر، فسكتت الطفلة وضحكت ولعبت، لكنّها ظلت في حالة قلق واضح، وعندما أنكرتها الأم وسألتها قالت بكل صدق كسرتُ الكأس لكن صديقي قال لي لاتخبري ماما واشترى كأسا آخر، فما كان من الأم إلا أن طردت الشاب العربي المستأجر، مرددة: لقد ربيت ابنتي على نظام لا أريدك أن تفسده..

فهل عرفنا لماذا لا يغشون، وأولادنا كلما كبروا كبر الغش فيهم حتى يسرقوا موازنة الوزارات والمشاريع بلا ارتباك ولا هزة ضمير.

من غشنا فليس منا وهو مسسؤول عن بناء سيعيشتحت سقفه الناس، لكنه يعبث ويترك عماله يعبثون، يصوم الأيام البيض تقربًا، وكل اثنين نافلة، ولاضير أن يقلل في نسبة الحديد، أويخل في نسبة الأسمنت والرمل وقبل مرور العامعلى المبنى تجد الشقوق تنتظم الجدار من أعلاه إلى أسفله.. أو الرمل يسيل عند ضرب أول مسمار في الجدار، وهو في الأصل لا يمانع في التقاط عماله منالشارع من أولئك الهاربين عن كفلائهم ممن لم يسمع مجرد سماع عن البناء ولا تمديداتالكهرباء، ولا تركيب الأدوات الصحيّة، ولا يمانع في اختيار أسوأ أنواع الأكسسوارات، ليركبها ويبيع المسكن تجاريًا، وبعد شهر تقع معدات السباكة مخلعة في يدي المستأجر أو مالك العقار.

من غشنا ليس منا لكنه يبيع صندوق التفاح، الكبيرة الحجم واللامعة والنظيفة فوق، وتحته في الصف الثاني تجد التفاح الصغير الغض المر الطعم، وفي الصف الثالث تجد المعطن الفاسد وهو يبيع ويردد استغفر الله.

من غشنا فليس منّا لكن هناك غش أبيض لايضر أحد كالكذب الأبيض ولذا سيغش في الامتحانات وينجح فهل نجاحه مضر لأحد؟

من غشنا ليس منا، يعرف أنّ المريض ميت، وأهله يرون بأم أعينهم أنّ مريضهم ميت وأنّ الأجهزة كلها متوقفة، لكن الطبيب يريد أن يربح ويصرف له مقابل العملية، لذا أدخل المريض لغرفة العمليات لإجراء عملية وهمية، يخرج بعدها يهز رأسه ويبلغ أهله النبأ مريضكم مات.

من غشنا فليس منا، يدير وزارة حكومية ربع وقته لها وثلاثة ارباع الوقت لمؤسسته الخاصة، ويعلق حكمة على مكتبة الوظيفة تكليف لاتشريف .

ولا بد بعد هذه اللقطات المعروفة لدينا جميعا، أن نقرَّ بأن من غشنا صار منا، لأنّ الغشاش يرى نفسه فهلويًا، وهذا ذكاء ومهارة وشطارة وتفنن، فلا أحد اكتشف غشّه، وكلما كبر منصب الغشاش كلما بادلناه الإعجاب والاحترام، فهو قد أدار الموضوع بفنية عالية واقتدار. من غشنا صار منّا لأنه يغسل أموال غشه ببناء مسجد يلمع به نفسيته المتعبة من عبث الشيطان، ويقدم للمصلين خدمات شتى تدعو له عند القيام والركوع، (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) حتى الله جعلوه عرضة لخداعهم، فالخداع غش، والمخادع غشاش، ومن غشنا صار منا.

تهدر المبالغ الطائلة على مبني عظيم، منظرهيسر الناظرين، لكنّه عند أول هبة مطر يخر سقفه واهيًا من عبث الغشاشين، من غشنا صار منا.

شركات كبيرة تأخذ مسمى الدرجة الأولى الممتازة، تسفلت الشوارع وتقيم الجسور وعند أول قبلة من سيارة جامحة الهوى، يهوي جدار الجسر، ويتفتت الشارع كقطعة بسكويت مدهش الهشاشة.. من غشنا صار منا.

سلفة ضرورية من ضرورات الحياة لإقامة مسكن يأوي العائلة، السلفة سبعين ألفًا ترجع للبنك مئة وأربعين ألفًا، لتأكل ما تبقى من العمر، من غشنا صار منا وصرنا منه، لأننا باركنا غشّه ولم نوقفه عند حد، فلم يحاسب عن مال تضخم ولم يجد عقابا على إهمال، ولم يحاسب على مبنى تهاوى على ساكنيه، ولم يشطب اسمه من نقابة أطباء، ولم نجد حلولا لربا أموالنا المهدرة، من غشنا للأسف صار منا، فعن أيّة أمة ستتشفع يارسول الله، والقوم جلهم ليسوا منك (من غش فليس مني).

تعليق عبر الفيس بوك