"وطفلٌ بات يهذي قبل أن يموت.."

مع ثوران العاطفة الإنسانيّة الباحثة عن الدّعة والسكينة كانت هناك انتهاكات بحجم وعظمة سوق "الحميدية" المكتظ بالساكنين والعابرين من شتى بقاع العالم.. ومع انحطاط الإنسانية وتمرغ الكرامة في وحل الحياة الحرة كانت هناك غُصة تتكور بين اللّثة والحلقوم تجثُم على شيء يُطلق عليه "إنسان".. وهي غصة تتمحور بشدة ملحوتها كبحر مرمرة.. فالحياة لفظت أنفاسها الأخيرة قبل أن تصل إلى اليابسة.. وهي تشبه أمواج بحر مرمرة التي لفظت "إيلان الكردي السوري" على شواطئ الحياة الأخرى.. وحيث يرقد صلاح الدين الأيوبي بجوار الجدار الأيسر من الجامع الأموي في حي "الكلاسة" فإنّ الإنسانية تفتخر وتسمو، وبين تلك الذكريات التي تنتشي بقائد عظيم وهذا اليوم المخزي الذي تخجل منه الرجولة؛ إن كان لها بقاءـ وامتداداتها في عصر بات كالصاعقة في أرض البطولات والتاريخ نجد البون شاسعًا.. وبين أنين نهر بردى المتبخر وقصيدة أحمد شوقي ثمة رثاء أحس به شوقي في تلك القصيدة التي جاءت في بحرها الوافر وهي وافرة المعاني ودمع لا يكفكف على رغم أولئك الفتية الغر الذين شربوا البحر بالغايات والسبق.. وبين شتات النفوس وعنفوان الأنظمة ثمة أجيال ذهبت ضحية البحث عن مأوى لا يتسع إلا لما يراه الحاكم والذي لا يتجاوز عتبة أنفه..

لا أدري أهو البحر كان قاسًيا ليُلقي بتلك الجثث المتوشحة بالبراءة والباحثة عن وطن يأويها؟ أم أنّ حياة الدنيا هي لعبٌ ولهوٌ وتفاخرٌ بين الناس فكانت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة؟ لا أدري هل هناك أكبر من هذا الذل والهوان التي تعيشه الدول الإسلاميّة..؟ لا أدري هل يكفي بأن نذرف دموع الحسرة والشكوى لنعبر عن عدم رضانا بذلك المشهد..؟ لا أدري هل عندما تناقلنا تلك الصور المخيّبة للآمال كان احتفاءٌ بأجيالنا وصناعة الإنساني فكريًا ووجوديًا؟ يا أسفي على نفس ضاقت بها الأرض بما رحبت فرفعت كفنها شراعا تقذفه الرياح حيث مالت، من أجل أن تنجو من ذبح يتهددها إلى مصير مجهول لا يعلمه إلا علام الغيوب، كل ذلك وسط مُكاء وتصدية الشعوب تظهره عدسات الإعلام المتهافت إلى نقل أخبار فاجعة.. يا أسفي على الشرق الأوسط "الجديد" الذي نادى به الغرب منذ فترة بعيدة وها هم يصدقون وعدهم كما وعد بلفور أحباءه اليهود.. يا أسفي على عروبة أزكمها بارودها المسلط على ذاتها.. نعم الكل يعي بأنّ الإنسانيّة والكرامة العربية ووريت إلى مثواها الآخر.. ليتنا نفتح قلوبنا لتكون مأوى لطفل بات يهذي قبل أن يموت بحياة الخلود.

ها هي أوربا تستنفر إنسانيّتها وتجتمع عن بكرة أبيها.. لأنّ "ميركل" "وديفيد كاميرون" والآخرين لم يغمض لهم جفن وهم يرون تلك الجثث النافقة على حدود أوربا من أجل الحياة.. هنا تذكرت التاريخ واستنفار أوربا قاطبة عندما هزّها سليمان القانوني ودق أبواب فيينا في عام 1520م.. فشتان بين ذلك النفير وهذا النذير الذي دق ناقوس الخطر لتكون وجهة الأمان بين أحضان ميركل ومانويل فالس، وفيكتور أوربان... هو أسمن وأغنى من عروبة في اسمها سم قاتل ورسمها بحر غادر.. فغدر البشر أدهى وأمر من غدر البحر.

على ذلك الشاطئ نام الطفل، ونامت معه الرجولة، إلا أن نومته خالدة في سموّها عظيمة في كبريائها تُغني عن مليار مسلم.. نم يا بُني لا نامت أعين الجبناء.. نم يا بُني لأنّ أمّة الإسلام نائمة نائحة.. لا لها لا في العير ولا في النفير.. فقط هي أغنية تعزف على وتر التاريخ الذي تبرأ منها كبراءة الذئب من دم يوسف.. نم يا بُني فأجدادُك لم يكونوا لُقمة سائغة لمعاني الربيع أو الخريف.. لأنّ نومك أطهر وأنقى من قصور بُنيت على أنقاض حياتكم .. فمهما علت وتباهى صانعها.. فهي رمال ستندثر مع أصحابها وتكون أثرًا بعد عين.. لأنّ الله يُمهل ولا يُهمل.

نم يا بُني.. لا عليك..ستكون تاريخًا كإخوتك الذين رحلوا قبلك ومعك.. ستكون "كالدرة" نضعه عنوانًا لكتابتنا أو عجزا لأشعارنا أو مثالا لموتنا.. أو كـ "الدوابشة" عندما أُحرق حيا فرقصت أقلامنا حتى الثمالة.. نم ولا تهذي قبل نومك وتُنادي أمك لتدفئك بحلمتها حليبا سائغا.. لأنّك لن تجدها حتى ولو ألححت في السؤال عنها فلا أحد يدري أين هي؟ نم يا بُني وأيّاك أن تُصدق بأنّها تعود بحسب ما يقولون لك .. فهي لن تعود .. ولن تعود وإن عادت فليست هي كما كانت.. نم يا صغيري فالنوم أشرف لك من همس الرفاق عن نوم الأمة نومة اللحود.. نم يا بطل فملح البحر سيغسله المطر إذا انهمر عندما يأفل القمر فنلعن البشر بهذا القدر.. نم أيها التاريخ وتوسد الحجر..فالأنظمة لا تهاب السؤال:عن البغلة التي تعثرت في سوريا أو اليمن أو العراق.. لماذا لم يُمهد لها الطريق.. لأنّ الأسئلة ستكون عن الإنسان في ذلك المكان والزمان، فهي أعتى من موت الغريق.

أتعلم أيّها الطفل ما هو الضياع؟ الضياع أن نكون في هذه الحياة جياع.. لا أمن ولا أمان.. ولا مفر من دم مراق على أرصفة الشوارع وشواطئ البحار التي لم تحفظ سركم..لأنّها لفظتكم لتفضح حُكامنا وتظهر سوءاتهمعلى مرأى العالم.. وهناك أفواج غيركم تئن كأنين الجذوع إذا مالت مع الريح والعواصف.. ومهجّرين يصارعون أشتداد الموج بالمجاديف والقلوع باحثين عن الحياة في كومة من اللاحياة ليكونوا وجبة للحيتان والغربان لأنّ رحى الحروب تدور وحولها نحن البشر.

أتدري يا صغير العمر وكبير المقام صدى صوتك يتردد كهزيم الرعد في بحر مرمرة لا تسمعه إلا "بودابست وباريس ولندن وميونخ.. "فتستفيق ملاهيها وأجراس كنائسها وشوارعها، فتبسط ذراعيها لإخوتك وطفولة تتلألأ على رمال الحياة كرغوة الأُجاجَ والمحار، وبقايا أنفاس صارعت من أجل البقاء وتكون شاهدة على ملحمة العبث بالإنسانية.. نم يا بُني فضريحك لا يقلُ هيبة عن ضريح السلطان سليمان القانوني.. نم.. نم رافعًا رأسك.. لأننا سندس رؤوسنا في الرمال كالنعامة.. ونقول كان يوماً.

همسة:

صدق السيّاب حين قال: وأسمع الصدى.. يرن في الخليج "مطر.. مطر.. مطر" .. في كل قطرة من المطر.. حمراءأو صفراء من أجنة الزهر.. وكل دمعة من الجياع والعراة.. وكل قطرة تراق من دم العبيد..فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد.. أو حلمة توردت على فم الوليد.. في عالم الغد الفتي، واهب الحياة.. ويهطل المطر.

هلال بن سالم الزيدي

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك