من أنت حتى تخالف السلف؟

صالح البلوشي

تُعدُّ سلطةُ السلف إحدى أهم عوائق الإصلاح في الخطاب الديني، وأقصد بسلطة السلف هنا: المنظومة المعرفية التي تشكلت في القرون الهجرية الأولى، واكتسبت قداسة في العقل الجمعي الديني؛ نتيجة لأسباب مختلفة منها: بعض الروايات التي نسبت إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن أفضل القرون هي القرون الثلاثة الأولى من الإسلام، وكذلك القرب الزمني لهؤلاء بعهد الصحابة الذين عاصروا الرسول، والتابعين وتابعي التابعين؛ وبلغت قوة هذه السلطة ذروتها عند بعض المدارس الإسلامية التي حرّمت أية قراءة للإسلام إلا بفهم السلف الصالح.

ونتيجة لهذه القداسة التي اكتسبتها هذه السلطة؛ أصبح الخروج على اجتهاداتها واختياراتها الفقهية والكلامية كأنّه خروج عن الإسلام، فما إن يخرج اجتهاد من هنا أو دعوة إصلاحية من هناك حتى تواجه بحملاتٍ شرسة من التشكيك والتشويه من رجال الدين التقليديين، ومواجهتها بعباراتٍ، مثل: من أنت حتى تخالف السلف الصالح؟ أو من تحسب نفسك حتى تخطئ علماء القرون المفضلة الذين تشرّفوا برؤية الصحابة والتابعين والأخذ منهم؟، وهناك من يرفض حتى مخالفة علماء عاشوا في القرن السادس والسابع الهجري، بل إن بعضهم يُشنّع حتى في مخالفة علماء عاشوا حتى قبل مائة سنة فقط، فحسب هذه الفئة المتحجرة من البشر فإن مقياس الصواب والخطأ ليس صحيح المنقول أو صريح المعقول، وإنما رأي الفقيه الفلاني أو العالم العلاني الذي عاش في القرن الثاني أو الثالث الهجري، أو حتى الخامس الهجري، فالمهم أنه ليس من عصرنا، وكلما زاد الفارق الزمني بيننا وبينه ازدادت قداسته وأهمية اجتهاداته وآرائه، وكأن السماء سوف تسقط على الأرض لو تجرأ عالم دين متنور أو مفكر متحرر على مخالفتهم؛ ونتيجة لهذا التقديس والتطويب -حسب التعبير المسيحي- لرجال السلف توقف الفقه الإسلامي السني عن الاجتهاد بعد الأئمة: الأربعة أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، ومالك، بينما توقف الفقه الشيعي عن التجديد بعد وفاة العلامة الحسن بن مطهر الحلي، وكأن شريعة الله اكتملت، أو أن الفقه الإسلامي بلغ الكمال بعد وفاة هؤلاء، وعقمت الأمة أن تلدا أحدا يفوقهم علما أو على الأقل مساوٍ لهم.

وقد تعرض دعاة التجديد طوال تاريخ الفكر الإسلامي لحملات تشويه منظمة وكبيرة من قبل دعاة الجمود والتمسك بالتراث الماضوي، ابتداء من المعتزلة، مرورا بالفلاسفة، وانتهاء -وليس انتهاء- بمفكري عصر النهضة، أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، والكواكبي، ومحمد حسين النائيني، ومحسن الأمين، والباروني، وغيرهم، وأذكر في هذا المجال الحملة الشرسة التي تعرض لها شيخ الأزهر الأسبق محمد عبده، عندما أصدر بعض الفتاوى التي خالفت بعض الآراء السائدة في تلك الفترة حتى أصدر الشيخ محمد الجنيبيهي كتابا تحت عنوان:" بلايا بوزا"، وأصدر الشيخ يوسف الدجوي كتابا في الرد على بعض الآراء التي ذكرها محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" ، بعنوان: "صواعق من نار على صاحب المنار"، أما المرجع اللبناني محسن الأمين صاحب رسالة: "التنزيه لأعمال الشبيه"، الذي دعا فيه إلى تنزيه ذكرى مقتل الإمام الحسين من الشوائب والبدع الدخيلة؛ فقد حورب بعنف وشن خطباء المنابر عليه حملة شعواء، حتى قال فيه أحد الشعراء:

يا راكبا أما مررت بجلق ( دمشق)*** فابصق بوجه أمينها المتزندق

ومن أمثلة الانتصار للسلف، إني قرأت مقالا قبل فترة للمفكر الإيراني محسن كديو، بعنوان: "العقل والدين بين المحدث والحكيم"، قدم فيه قراءة نقدية مقارنة بين اجتهادات وآراء المحدث محمد باقر المجلسي صاحب موسوعة: "بحار الأنوار" الروائية، والفيلسوف محمد حسين الطباطبائي رجح فيها اجتهادات الأخير، وقد تصدى أحد الفقهاء ويدعى الشيخ علي ملكي الميانجي لهذا المقال واتهم الكاتب بالإساءة إلى المجلسي رغم أن المقـــــــال -برأيي- لم يتضمن شيئا من ذلك.

هذه المصادرة لفكر كل من يخالف الموروث الديني يجعلنا نتساءل عن حرية الاجتهاد في الإسلام، وهل هي حرية حقيقية أم مجرد تنظير فقهي خال من التطبيق؟ أم أنه اجتهاد مشروط بعدم مخالفة الموروث الديني باعتباره خطا أحمر لا يمكن تجاوزه؟ إن تجاهل تاريخيّة النصوص، والعامل الزمكاني، والظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية التي صدرت فيها؛ يؤدي بطبيعة الحال إلى جمود الفقه الإسلامي، وعدم قدرته على مسايرة التطور واستيعاب متغيرات الحياة، وأبرز مثال على ذلك: فتوى ابن تيمية بحق بعض الطوائف الدينية التي صدرت في سياق تاريخي معروف انتهى أمره، ولكن -للأسف- فإن بعض التيارات الظلامية اليوم استغلت هذه الفتوى لإبادة طائفة كبيرة من الشعب السوري، وتدمير هذا البلد ذات التاريخ العريق، وما لم ينتبه علماء الدين والمفكرين إلى هذه المعضلة فإننا سنبقى أسرى لدى النصوص والفتاوى التاريخية، التي تلاحق كل مسلم سنيا كان أو شيعيا أو علويا.

ويتساءل المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد الذي طالته تهمة التكفير بسبب بعض آرائه التي خالفت السلف في كتابه "التفكير في زمن التكفير" ص 128: "هل الأئمة الأربعة والخلفاء الأربعة ومن سواهم من الأئمة والخلفاء إلا بشرا مارسوا حقهم في الاجتهاد والتفكير، وتركوا لنا تراثا يستحق منا أن نفكر فيه ونجتهد كما فكروا واجتهدوا؟ أم أن الخطاب الديني الذي يرفع لواء "الاجتهاد" و"الجديد" بشرط أن يدور المجتهد والمجدد في إطار اجتهادات وتجديدات بعض كبارهم؟"، إن التجديد في الخطاب الديني لا يمكن أن يتحقق إلا بإزالة القداسة عن اجتهادات السلف، والنظر اليها باعتبارها قراءات بشرية تحتمل الصواب والخطأ، وما لم يتحقق ذلك فإن كل حديث عن التجديد أو الاجتهاد كمثل النقش على الماء.

Omansur5@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك