حمراء بو خصف

مريم العدوية

"هذه الليلة سأُبقي عينيّ مفتوحتين؛ لأراها وحينها سأعرفُ من تكون؟"

نستطيعُ القول بأننا أبناءُ نخب الميثولوجيا التي ما كفت تغرق أدمغتنا بأساطيرها التي لا تنتهي، كيف لا ونحن ندرك الآن تماماً بأننا مهما كبرنا سنبقى أقزاماً أمام الكثير من الأساطير التي يطلقها الآخرون في وجوهنا بمناجيق سخريتهم اللاذعة واللامبالية؛ فقط ليزيحوا ثقلنا الوهمي عن طريقهم. إن لم تشرب. إن لم تأكل. إن لم تنم. إن لم تهدأ. إن لم تفعل. وتطول القائمة السوداء المثيرة للغضب والحنق ولا تنتهي. ستأتيك (حمراء بو خصف)، لم يكن بالمقابل أي شيء قادر على إخافة جموح خيالنا وإيقاف شقاوتنا في وقت لم نكن ندرك كم كنّا كباراً حقا بتطلعاتنا ورغبتنا في اللامحدود!

ولهذا كنا نبقى في صراع قد يستمر إلى بواكير الفجر الأولى من أجل رؤية هذه الحمراء، بل وربما كنّا على أهبة الاستعداد لمقارعتها متى ما لزم الأمر بأسلحتنا الوهمية. لكننا لم نحظ بتلك الفرصة أبداً. وكبرنا وزادت خيباتنا خيبات؛ عندما اكتشفنا أنها ليست سوى أكذوبة أحب الكبار تسميتها بيضاء، جاعلين من (التمرة المتروكة على سعف النخيل؛ لتجف وتخزن لموسم الشتاء أسطورة لإرعابنا)!

هكذا تحطمت أولى براعم رغباتنا بتقلد سيف (دون كيشوت) وسقطت عزائمنا من علِ؛ فليس غريمنا سوى مجرد تمرة لا تملك سيفا ولا رُمحا للمقارعة، كما إنها أبعد ما تكون عن شبح عجوزِ لطلطِ مخيف يتخذُ من شجرة عملاقة عكازاً لملاحقة البشر الأطياب! وهكذا ببساطة سقطت الثيمة المهيوبة من نفوسنا بعنف، جارفةً معها الكثير من القصص والمشاهد التي لطالما شاهدناها مراراً في خيالنا ولم يُكتب لها من الواقع أي نصيب.

وبتنا على يقين تام في المقابل بأن الأساطير لا تتوقف عن استفزاز حياتنا؛ فنصف قصص السياسة - على سبيل المثال لا الحصر- ليست سوى حبكات مستحدثة لأُطر قديمة لا تختلف كثيراً عن (حمراء بوخصف) مع اختلاف الزمان والمكان والشخوص والهدف!

وإنهُ لمن السذاجة أن نبقى ببراءة الأطفال في انتظار مقارعة تلك الأساطير التي لا تنفك ترفدها إلينا الأخبار كل يوم، ناشرة الرعب والإرباك في حياتنا.

إذن نحن أبناءُ الخوف الذي رضعناهُ صغاراً وأبوا إلا وأن يلقنوننا إياه كباراً، معجونون نحن بالخوف والرهبة بعجين بات يُأسطرنا كما يشاء حتى بتنا نفتقد كينونتنا ونجهل من نكون!

لكن أساطير الشاشات باتت أكثر قسوة وشراسة، حيثُ تعبأ صورها أدمغتنا بلا هوادة أو رحمة، إنها لا تشبه تلك التي ألفناها وانتظرناها كثيراً؛ لتكسر النوافذ أو تمدُ مخالِبُها إلينا عبر الفتحات، إنها تنتشر كالسرطان وتصرخ بغرور لتعلن عن مكانها مهددة ومتوعدة ، إنها أساطير موجودة حقاً! ولا شيء يأسطرها سوى كمية الشر الذي تختزنه ولم نكن في يوم من الأيام لنتصوره.

سنكون إذن آباء وأمهات أكثر وعيا ولن نثير حفيظة علماء النفس وما سواهم، ولن نكرر الأساطير على مسامع أطفالنا، ولكن ماذا عن الأساطير الملعونة التي تخطفهم من أحضاننا علناً دون توجس أو ريبة؟.

كيف نُغني لأطفالنا تهويدة النوم ونبشرهم بأن حمام السلام سيبقى يحرس مضاجعهم، بينما هم باتوا واثقين بأنهم مهددين حيثما كانوا، حتى وإن بقوا راكعين ساجدين في بيوت الله مسالمين لا يطلبون سوى رضا الله وحياة طيبة وميتة سوية!

ربينا في طفولتنا شجاعة تكفي لحروب خيالنا وحسب، تلك الحروب التي كنا ننام ملأ أجفاننا مطمئنين بأنها لن تأتي، حروباً لنشر الخير وإحلال السلام ونشر المحبة، ولم نكن ندرك بأن الحرب أكثر من ذلك بكثير! وقد تأتي يوماً.

ماذا لو أن لكل شخص منّا حرية في اختيار أسطورته؟ ألا يحق لكل إنسان أن يكون أسطورة نفسه مثلاً؟ يرسمها ويكتبها ويعيشها كما يحب ويشاء ؟

" أما أنا، فسأدخل في شجرة التوت حيث

تحوّلني دودة القزّ خيط حرير، فأدخلُ

في إبرة امرأة من نساء الأساطير

ثم أطيرُ كشالٍ مع الريح"

هكذا تمنّى (محمود درويش) أن تكون أسطورته، هادئة ورقيقة وحرّة .

إنها أقل ما يُقال عنها بأنها سماوية، سماوية تحلق إلى المطلق، المطلق الذي لا يجمع الأساطير الغيبية وأحلام الحوريات الكواعب النواعم بلا عدد أو حساب، أسطورة لم تحتاج لحزام ناسف؛ ليطيرها ويطير معها أرواح الأبرياء.

تعليق عبر الفيس بوك