لبان مجان

هلال الزَّيدي

عندما انهال الإعلامي المبدع حفيظ حعبوبعليَّ بوابل من الأسئلة في برنامج "لبان مجان" في قناة مجان الفضائية -القناة الغائبة الحاضرة وسط زخم الفضاء المفتوح- أقول عندما شرع الأسئلة مع زخات الرذاذ القادمة من مرتفعات سهل "إيتين" ذي الامتداد الأخضر والضباب الذي يُعانق هامته، كانت الأجوبة خجولة بعض الشيء؛ فطفقت مسحا وتعبيراً حتى أفكك طلاسم المشوار الكتابي الذي استعدتُ فيه الكثيرَ من الذكريات كانت سجينة الفكر تبحث عن فضاء يستقبلها في صورها البسيطة ومعانيها الجزلة.. لم يفتأ "حفيظ" في فتح ثوران الأسئلة إلا أن يغرد في كافة الاتجاهات التي لامست شغاف القلم ووقعت تحت سطوة لوحة المفاتيح في يوما من الأيام؛ فالمكان كان كفيلًابأن يمدني بطاقة أستطيع أن أفسر وأضع الرأي في قوالب الحديث معتمدا على مشوارٍ بسيط لا يرقى لأن يكون "ربما" أنموذجا كما عدّته بعض القامات الإعلامية؛ لذلك -ومع الدورالذي تمارسه الرسالة الإعلامية في كافة قوالبها- يأتي "لبان مجان" ببصمة الإعلامية عزيزة راشد في إعداد فقراته واستنفار ضيوفه، ليتوج فيما بعد بلمسات المخرج المتألق راشد السابعيمُحفِّزا كبيراً لأصحاب الأقلام التي تحتاج إلى معرفة البعد الآخر من موقعها على هذه الخريطة مترامية الأطراف والمتعددة في قنواتها؛ وبالتالي فإنَّانهمار الفكرة على الأصابع التي بدورها قوَّست الظهر من شقاء الانحناء لها كانت تبحث عن حضن يُدلل معناها ويُقدمها في قالبٍ يجد القارئ فيه ما يبحث عنه من حيث إضافة مخزون فكري معرفي ثقافي له، أو يتناول قضية تواجه المجتمع وتحتاج إلى لفت النظر إليها. وعليه، فإنَّ تتبع الحرف وصياغته في كلمة ثم جملة لا يكون سهلا كما يظن البعض، وإنما يحتاج إلى جرأة وشفافية وقارئ يهدي إلينا عيوبنا بطريقة توافق العقل.

تلك الأسئلة التي دارت في ذلك "الأستوديو" كانت أسئلة عميقة وتحتاج إلى خبير يبني ردودها، لكنني اجتهدت لأكتشف فيما بعد صداها، ورجع الصدى في الرسالة الإعلامية مهم جدًّا حتى نتبيَّن غموضَ الآخر، ونتيقَّن بأن نستمر أو نتوقف؛ حتى لا يكون العبث بالكتابة طريقا مظلما لا يؤتي ثمارا ولا يسد سغبات الجوع المعرفي لدى الرأي العام.ومن هنا، تولَّد لديَّ بعض الاطمئنان في أن هناك من يقرأ وهناك من يتفحص وهناك من يستمتع بجزالة اللغة، وهناك من تثيره الكلمة قبل الجملة فتدفعه دفعا إلى كتابة رد يليق بما كتب ويدفعه إلى البوح بما حققته تلك الانغماسات الفكرية في محيط قريب أو بعيد؛ لذا ومع ذلك التباين في ترتيب الأسئلة إلا أن التجول بعيداً عن القلم والورقة يعطيك منافذا لمساراتك التي تسقطها في فضاء الورقة لتتحول إلى سواد محمود؛ لأنَّ الحديث المباشر هو مؤشر لمدى قدرة الكاتب على المشاركة في منابر الحوار وتقديم رؤاه بطريقة لا يجبر الطرف الآخر عليها، ولا يدّعي بها مكانة أو وصولا لوضع اجتماعي مثلا؛ فهي تبقى في خانة الاجتهاد الذي يحتاج إلى شكر وتوجيه حتى يستقيم في يوم من الأيام.

إن الدور المنوط بالإعلامي "الكاتب والصحفي" دور كبير يسير في سبيل تنوير المجتمع بمختلف فئاته وتوجهاته؛ لأنَّ الرسالة الإعلامية هي لتغيير سلوك واتجاهات الأفراد بما يحقق التكامل الاجتماعي ويُثير القدرات الكامنة لدى الأفراد؛ لذلك كان الحديث يستحث الهمم ويستوضح التفاعل الجماهيري الذي يخلفه مقالا ما احترقت فيه أفكار كاتبه ليتلقاه القارئ وجبة جاهزة بمقادير مختلفة؛ لذلك فإنَّ التذوق مختلف ومتباين من أجل إيجاد التنوع في الوجبات المعرفية المقدمة. ولا يزال سيل الأسئلة ينهمر في ذلك المكان كأنني أستشعر من "حفيظ" بأنَّ عليه استغلال الوقت لإثارة أكبر عدد من الأسئلة؛ فيوجه شراعهنحو المسؤولية الاجتماعية التي يجب أن توازي جهود وإبداعات الشباب في مختلف الأمكنة؛ لأنهم يحتاجون إلى دعم متواصل، وهذا دور يتبناه القطاع الخاص؛ لذلك فمع المحاولات الخجولة التي يراد بها ظهورا إعلاميًّا نرى العديد من الأحلام تفتت عند بوابة الدعم واستمرارية الكثير من المشروعات، وهناك الكثير من الرسائل تستحث هذا القطاع إلى زيادة جرعاته والبحث عن مكامن الإبداع كي تتوافق مساراتهم واهتماماتهم بالمسؤولية الاجتماعية.

في ذلك المكان الذي يعج بالأفكار وعبر تلك الشرفة التي تطل بها قناة مجان تسمع أصوات الفنون بمختلف تجلياتها؛ ليعرج "حفيظ" مرة أخرى إلى قراءة المشهد المسرحي الذي يحتاج إلى ثورة في عناصرة كافة من أجل وصول رسالته بجانب الرسالة الإعلامية.. لأطرح سؤالين في مقابل تلك الفجوة المسرحية: ماذا يريد المسرحيون؟ وماذا يريد الجمهور من المسرح حتى يكون حاضرا وبقوة؟ وعليه أقول: نحتاج إلى فهم عميق إلى دور المسرح لنستخلص منه الكثير من العبر والرسائل التي من شأنها أن ترتقي بالفن نفسه وتقدمه في صورته الواقعية وليست الرمزية التي أغرقته وأبعدت عنه الجمهور بذريعة صعوبة فهمه؛ لذا كان من الواضح في تلك العجالة السريعة أن نقرأ المشاهد المتواترة في سيل الأسئلة بنوع من الحذر حتى لا يراها البعض إلزاما له أو نظريات في فضاء هلامي لا واقع له.

لبان مجان ومع تناثر رائحته في شتى المجالات والميادين في ميدان المهرجان كان قويا ونفاذا في ربط الحالة الاستثنائية الخريفية التي تمر بها محافظة ظفار سنويا، وتوزيع تلك الروائح الجميلة التي حرصت عليها "معدة البرنامج عزيزة راشد" حتى تقدم جُملا معرفية عبر ضيوف من شتى المشارب الثقافية والفكرية والحضارية، وهذا يحسب لها لأن البرنامج يومي، مما يستنزف كافة الطاقات، لكنها بحنكتها وخبرتها وقوة تأثيرها استطاعت أن تملأ تلك المساحة بوابل من الاتجاهات الثقافية والمعرفية، جعلنا نشيد به جميعا.

--------------

همسة:

"إليك أشد الرحال وأنزع الكلمة من مخبأها لأجرها إليك كالعاديات؛ لتقف عند تكوينك الممتد حتى وإن بعُدت المسافة؛ ليكون فكرك حظنا لها وتقويما لتقوس الظهر الذي أرهقته الجمل؛ لأعود من جديد وأفتش في ذاكرتي وحاضري عن شيء استفز فيه وجودك كي تقولي بشفافية مطلقة: انطلق فما زال لديك الكثير.. لأنك أنت من تزكيني عندما لا أحتاج إلى تزكية من الآخرين؛ فاللبان يحترق حتى تكون رائحتة فواحة "زكية".. وأنا أحترق وسط الكلمات لأنتقي لك أجملها وأغزرها وأنفعها إليك".

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك