الشورى بين الوعي الجمعي والفردي


نادية المكتوميَّة

تشهدُ السلطنة هذه الفترة تظاهرة انتخابية مهمة في ساحة السياسة الداخلية؛ وهي: انتخابات مجلس الشورى.. وقد قطعتْ التجربة العمانية الشورية شوطا لا بأس به كتجربة سياسية داخلية انطلقت بذورها الأولى منذ العام 1979 متمثلة في "مجلس عمان للزراعة والأسماك والصناعة"؛ حيث تجسَّد مبدأ الشورى في اختيار أعضاء يمثلون القطاع الحكومي في هذا المجلس، تلتها مرحلة مفصلية أخرى في هذه التجربة عندما تأسَّس المجلس الاستشاري للدولة عام 1981 ليحل محل "مجلس عمان للزراعة والأسماك والصناعة"؛ لتنمو التجربة العمانية الشورية بشكل أكثر نضجا. وفي العام 1991، تأسَّس مجلس الشورى ككيان شوري واضح المعالم وتجربة أكثر نضجا في الساحة السياسية الداخلية للسلطنة، وتوج مشوار الشورى عام 1996 عندما تأسس مجلس الدولة ليكون مجلس الشورى ومجلس الدولة جناحين لمجلس عمان الموقر معطيا ذلك للشورى ثقلا سياسيا على الساحة السياسية العمانية.

المتأمِّل في سيناريوهات الناخبين في هذه الأيام، يجدهم ينقسمون لفئات مختلفة -تعكسها بشكل فكاهي، لكنه خطير- الطرائف المتناقلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتشي وتنم عن هذه الفئات، والتي يمكن تصنيفها من وجهة نظري الشخصية للفئات الآتية:

- فئة تختار مرشحها بالتبعية والمجاملة للمرشح أو القبيلة أو أسباب أخرى جميعها غير موضوعية؛ مع العلم بأنَّ هذه الفئة لا تفقه في الشورى ومبادئها وماهيتها شيئا.. فقط يتم الترشيح بالتبعية والموالاة للجماعة.

- فئة أخرى وسيناريو آخر من الناخبين لا ينقصه الوعي والمعرفة بآليات وأهمية الترشيح غير أنه يظل مأسورا أيضا للتبعية والقبلية ومعايير غير موضوعية لا تتفق مع الهدف الأسمى الذي تسعى له السلطنة من خلال هذا المجلس.

- سيناريو آخر وهو المواطن المحجم عن المشاركة بصوته في الانتخابات؛ إما لعدم الوعي بأهمية ذلك، أو لعدم قناعته وثقته بما يحدث في الساحة الشورية بالسلطنة؛ فينأى بنفسه عن الساحة رغم أهمية الحضور.

- سيناريو مُشرِّف لا تخلو منه الساحة الانتخابية؛ وهو الناخب الواعي المثقف الذي يعطي صوته عن وعي، واضعا نصب عينيه أن صوته أمانة.

... إنَّ العاملَ الأساسيَّ الذي يلعب دورا مهما وجوهريا، ويعتبر الحجر الأساس لنجاح التجربة الشورية في أي دولة كانت هو مستوى الوعي والإدراك بماهية وأهمية وكيفية الشورى في المجتمع على الصعيد الجمعي والفردي، وتعتبر مسؤولية غرس ثقافة الشورى ورفع مستوى الوعي بها مسؤولية تشاركية بين مؤسسات مجتمعية عديدة بدءا بالمحاضن التربوية الأسرة والمدرسة ومؤسسات التعليم العالي.

ففي المحاضن التربوية كالأسرة، يبدأ الطفل تعلم معنى الشورى بممارسة بسيطة جدًّا؛ تتمثل في إشراك الأهل للفرد في شؤون تخصه كاختيار ملابسه وألعابه وهواياته ونوعية دراسته حسب ما تقتضيه وتسمح به خصائصه النمائية في المرحلة العمرية، مُفعِّلة أسلوبَ الحوار والإقناع والتفكير التحليلي الواعي والإرادة الفردية للأبناء في شؤون حياتهم، وأيضا إشراك الأبناء في اتخاذ قرارات مهمة تختص بالأسرة وتعليمهم مهارات الحوار الهادف ومعايير اتخاذ القرار في الحياة...وغيرها من المهارات الشورية التي تبدأ الأسرة في غرسها وتعهدها بالنمو والرعاية منذ باكورة عمر هذا الفرد الذي سيصبح يوما ما مواطنا يقف ليمنح صوته، مشاركا في رسم خريطة وطنه السياسية، ثم تأتي بعد ذلك المدرسة لتكمل مشوار تعهد غرس وتنمية الوعي الشوري في شخصية الأبناء باعتبارهم أطفال اليوم ناخبي ومترشحي الغد؛ لتمارس معهم الثقافة الشورية في نطاق أرحب وأوسع من جو الأسرة جو المدرسة الذي يمثل المجتمع المؤسسي الصغير للحياة الواقعية لاحقا؛ فيتعلم الطالب لماذا يرشح؟ وكيف يرشح؟ وإجراءات الترشيح والحملة الانتخابية الإعلانية ولجان الفرز...وغيرها من الإجراءات والمهارات المهمة في العمل الانتخابي الشوري؛ ليتقمَّص الطالب مختلف الأدوار: دور الناخب، ودور المترشح، والقائمين على عملية الانتخابات بشكل موضوعي وصحيح، مُدركا بذلك أهمية الشورى والانتخاب في حياته العملية لاحقا؛ فنغرس لديه في مراحله الدراسيَّة المختلفة مهارة سياسية مهمة جدًّا ستلعب دورا جوهريا في غرس الثقافة والوعي الشوري في المجتمع السياسي لوطنه لاحقا من خلال هذه الممارسات البسيطة والخطيرة في تشكيل العقلية الانتخابية الشورية.

لتأتي بعدها مؤسسات التعليم العالي والتي تتيح للشباب الجامعي ممارسة أدوارهم الانتخابية والشورية بطريقة أوسع وأنضج من خلال الأنشطة الطلابية الجامعية والمشاركات التي تحفل بها الحياة الجامعية. كما يلعب الإعلام دورا مهمًّا في بث الوعي بشتى قنواته المسموعة والمرئية.

ولا نُنكر أيضا الدور والجهد الذي تبذله وزارة الداخلية في نشر الوعي بماهية وأهمية وكيفية وخطورة العملية الانتخابية، خاصة فيما يتعلق بمنح الفرد صوته للمترشح، وأيضا كيفية الترشح للمجلس؛ باعتبار صوت المواطن هو الفيصل الذي ترتكز عليه العملية الانتخابية.

ويعتبر "ملتقى الشورى" الذي تنظمه وزارة الداخلية حاليا في الفترة من 24 أغسطس وحتى 19 أكتوبر، مُؤشرا على دور الوزارة وحرصها على بث الوعي الجمعي والفردي للعملية الانتخابية الشورية، وحقيقة لا تزال ثقافة الإعلان والتسويق للمترشحين بحاجة لمزيد من الرعاية والتطوير والتدريب -سواء بجهود من وزارة الداخلية أو جهود المترشح نفسه- ويظل الفيصل الأهم في نجاح الشورى وبلوغ أهدافها الوطنية السامية صوت المواطن، فكلما كان الوعي الفردي عاليا حصلنا على عملية شورية ناجحة وناضجة في نفس الوقت، ويبقى صوتك أمانة فاحرص على منحه لمن يستحق.

تعليق عبر الفيس بوك