سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(7)

د. صالح الفهدي

صناعة الوعي

اجتمعَ بأبنائه، فقال لهم: يجب أن تعووا أنَّ الثروات في الأوطان هي موارد ناضبة، وأننا يجب أن نتعامل معها بحكمة وفق هذا الواقع. وما يحدث اليوم في دولنا إنما هي مؤشرات لا يعقلها إلا العالمون. أما أولئك الذين ينامون ويصحون على أحلام وردية، فلا يفكرون في صورة المستقبل، ولا يريدون أن يُفكروا فيها لأنهم لا يُحبون أن يؤذوا أنفسهم بالقلق، أو يقضوا مضاجعهم بالتحديات المقبلة.

أولئك كالذين طلب منهم ملك مصر أن يفسروا حلمه حين كان النبي يوسف -عليه السلام- في السجن، ذلك الحلم هو عبارة عن سبع بقرات عجاف(أي هزيلات)، يأكلن سبع بقرات سمان..!! قالوا له: مجرد أضغاث أحلام، أي أنها هلوسات النائم الذي تأتيه صور متداخلة، مضطربة لا أساس لها..! أما النبي يوسف -عليه السلام- حين أُخرج من السجن، فقال على لسان الحق سبحانه:"قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون"(يوسف:261).

تبرير المفسرين إنما يجسِّد الهروب من المسؤولية لصناعة وعي لشكل المستقبل، أو حتى مجرد التفكير فيه إذا ما وضعنا المستشارين في موازاتهم. أمَّا الصورة التي أباح بها النبي يوسف -عليه السلام- فهي تناظر رؤية الإستراتيجي الذي يضع تحديات المستقبل، ويصنع الوعي، ويتحدث عن الفرص، ويبين كيفية إدارة الأزمات.

وأكمل الأب الحديث لأبنائه.. قائلاً: أطلبُ منكم أن تفكروا جيداً في المستقبل، وتقدِّروا قيمة النعم، وضرورة ترشيدها. عليكم أن تقدروا قيمة المال الذي ينزل في أياديكم فلا تنفقوه إلا فيما يأتي عليكم بالعائد النافع، وأن تمعنوا النظر، وتفكروا ليل نهار في كيفية تنويع دخلكم".

هذا موجز حديث أب لأبنائه، أراد أن يُهيِّئ وعيهم؛ ليربطهم بالواقع، ويوضح لهم تحديات المستقبل. من هنا أسأل: هل ندرك نحن كشعوب حجم التحديات المستقبلية..؟! هل ندرك بشكل كاف ما هي أشكال هذه التحديات المقبلة؟ وما هي الفرص التي نحن بإزائها، حتى نستطيع توجيه دفة السفينة التي نحن عليها، أو نتفادها كما تنأى السفينة عن جبل الثلج العائم..! أكاد أُجزم بأنَّ الصورة المستقبلية غائمة، وأن الوعي بالآتي وما ينطوي عليه من تحديات ضعيف جدًّا؛ ذلك لأننا لا نسعى لمثل هذه الصور التي نحسبها مخيفةً أو مرعبة، ونفضل أن نحيا "على البركة"..!

... إنَّ أحد المفكرين السنغافوريين المصنَّفين ضمن المائة مفكر عالمي واسمه كيشور محبوباني (KishorMahbubani)، قد ألف كتاباً أشرت إليه سابقاً في الذكرى الخمسين لنشأة الدولة السنغافورية، يطرح فيه تساؤلاً غير مريح جعله عنوانه، وهو:"هل يمكن لسنغافورة أن تعيش؟(Can Singapore Survive)". هذا هو نظر الإنسان الواقعي الذي يتنبأ بالأحداث، ويستقرأ المستقبل بما يحمله من فرص وتهديدات للوجود الإنساني والجغرافي.

إنَّ انخفاض أسعار النفظ واهتزاز الاقتصاديات التي تعتمد على النفط اهتزازاً ملحوظاً اضطر بعضها إلى تحرير أسعار البنزين، أو السحب من صندوق الاحتياط، أو تخفيض الصرف على البنى الأساسية أو إيقاف مشاريع، لهي أمور تستدعي التوقف عندها مليًّا..!. لكن ليس هذا هو محور الموضوع، إنما صناعة الوعي الوطني هو ما أرمي إليه، وهو أمر يتضمَّن ضرورات تتعلق بمستقبل الأوطان ووجودها.

... إنَّ الشعوب التي لا تتمتع بالوعي الكافي لإدارة مواردها، وتقدير النعم التي حباها الله بها، لا يمكن أن تتمتع بالكفاءة في إدارة الثروات، والحفاظ على الثروات بالطرق السديدة.

انظر إلى طلاب مدرسة احتجوا على امتحانات وهم يحطمون ثروات وطنهم المتمثلة أمامهم في نوافذ الفصل، وأبواب المدرسة، وطاولات الدراسة، واسأل نفسك: هل يمتلك هؤلاء الوعي بمستقبلهم المتعلق بالحفاظ على مكتسبات الوطن؟

اسمع لإجابة سائق مواطن سألته ذات مرة: ما الذي تحمله في هذه الشاحنة التابعة للشركة التي تعمل بها؟ فقال: لا أعرف ولا يهمني أن أعرف..! فقلت له مندهشاً: ما الذي يهمك إذن؟ قال: الراتب في آخر الشهر؟ قلت له: ما رأيك لو خسرت هذه الشركة بسبب عدم اكتراث الآخرين من أمثالك وأفلست، وخسرت أنت وظيفتك نتيجةً لذلك، أيهمك الأمر حينها أم لا؟ فلم يجبني..!

وتمعَّن في انتقام الشاب الذي سألته عن معاشه في إحدى الشركات، فقال لي بإعجاب المنتقم المزهو: الراتب ضعيف، ولكنني أعرف كيف أتعامل مع الشركة؟ قلت له: ماذا تفعل؟ قال: أغلق هاتفي الساعة العاشرة، فأعطل إيصال الشحن، وأوقف سيارة النقل أمام بيتي وأنام..!!

طالع تقاسيم الوجوه المصدومة من فواتير الاتصالات والطاقة في آخر الشهر -هذا طبعاً إذا سلَّمنا بعدم وجود مبالغات شركات الخدمات- واسأل: هل يتمتع هؤلاء المصدومون بالحس المتواضع من الوعي أثناء استهلاك الطاقة حيث المصابيح المضاءة، والمكيفات المشتغلة في كل زاوية، بحاجة وبغير حاجة؟! وتمعَّن في الطرقات وأنت ترى الشباب يحومون في سيارتهم دون مقاصد وهم يستهلكون طاقة كان أولى أن تدخر لأجيال المستقبل..! وتفكر في جيل الأطفال الذين يستخدمون الهواتف ويستهلكون مصاريفهم في شراء تكاليف التعبئة والتزود بخدمة الإنترنت واسأل: ما هو مردود كل هذا الصرف؟! التفت لكل زاوية، وتمعن في كل موضوع تجد إسرافاً هنا، وتبذيراً هناك! مع أن الله الكريم القادر على رزق عباده ينهاهم عن التبذير حتى في جوانب الإنفاق على الخير بقوله سبحانه: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" (الفرقان:67).

وحتى لا يكون التساؤل مقصوراً على الوعي المادي المتعلق بوجود الإنسان واضطراد نمائه في وطنه، فإن صناعة الوعي هي عملية عقلية تتطور على مراحل. فالتجهيل النفسي والفكري يبدأً من البيت؛ حيث تغييب الأبناء عن الوضع الإداري والمالي والاجتماعي الأسري بدعوى أنهم لا يجب أن يعلموا ما ليسوا مؤهلين له، أو أن معرفتهم لن تقدم شيئاً يذكر لما يطرح عليهم. بل إن بعض الأزواج يقصي زوجته عما يفكر فيه، أو يشغل باله ويعتبر ذلك تضحية كي لا يمض قلبها، وهو في الحقيقة -في جانب منه- إقصاء للآخر، وتغييب لمشاركته صنع المصير الأسري المشترك!

وتأمَّل في الجهات الحكومية والشركات الخاصة التي أكثرها لا يمتلك الرسالة والرؤية، تجد أن هذه رموز الوعي الوظيفي الذي يعني غيابه، ضياع البوصلة..!

... إنَّ الشفافية -أكانتْ على صعيد الحكومات أم البيوت أم المؤسسات الاجتماعية- هي أمر مهم لأنها تبسط الوعي كسجادة يشترك الجميع في نسيجها، يسهمون فيها بهموم وأفكار مشتركة، لكن الشفافية لا يمكن أن تتحقق دون وجود نزاهة تسبقها، النزاهة قرينة الأمانة، ولكي تصبح الحقيقة شفافة لا بد أن تصدر عن نزاهة وأمانة، تماماً كسطح الماء الشفاف حين يكون قاعه مرصوفاً بالفضة!

ولكي يرتقي الوعي، لابد من التعاطي مع الطفل كإنسان له قدراته الهائلة في الحياة.

ومع الشاب والشابة كصناع للتنمية يمتلكون الحماسة، والفكر المتوهج لبناء وطن.

ومع أصحاب الخبرات المهنية، والحياتية المختلفة كمشاركين في صياغة المصير الوطني.

إيجازاً نقول: لا يمكن لأي وطن أن يعتمد على قواه البشرية دون أن يتقصد قادته تنمية الوعي الإنساني فيه؛ ذلك لأن الوعي هو مختبر تطوير العقل، ومن لم يزدد وعياً تنضج نظراته، فإن لن يميز بين أسود وأبيض، ومنفعة ومضرة، يقول المعلم الهندي أوشو (Shree Rajneesh):"لتصبح سيدَّ نفسك، عليك أن تصبح أكثر وعيا نحو أفعالك وأفكارك، الخطوة الأولى نحو سيادة نفسك هي أن يزداد وعيك في أفعالك وأفكارك. اللاوعي عبودية، الوعي سيادة".

أما صناعة الوعي الوطني، فتلك مهمة منوطة بمؤسسات التعليم والإعلام، والمؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية، وهذه جميعها لن تصنع وعياً إن مارست التضليل أو التمويه، إنما تصنع الوعي بالمشاركة المصيرية وفق قاعدة الشفافية والنزاهة والأمانة، يقول بنيامين فرانكلين (Benjamin Franklin):"أخبرني وسأنسى، علمني وربما سأتذكر، شاركني وسأتعلم" هكذا يصبح الوعي بالمشاركة وعياً حقيقياً لا زائفاً، حينها تصبح الشعوب الواعية كتلة واحدةً تتقدم نحو البناء والتعمير والتطوير.

تعليق عبر الفيس بوك