أضغاث أحلام

سُلطان الخروصي

مملكة أحلامي تنتصفُ الطريق بين مخدَّة ناعمة ومدينة فاضلة، شدَّني الطموح لأبني قصراً فاخراً أتنعَّم فيه بقية حياتي؛ فلربما لا ألقى نعيماً بعدها؛ إذ أغدق علي بعض هامان القوم وابلاً من الكفر وأحلُّوا دمي، بل ورصدوا لمن يسفكه جوار ناعسات ناعمات يتقلَّب في أحضانهن يُمنة ويُسرة. حينها قرَّرتُ أن أعيش جنة حلمي بعيداً على غوغاء المراهقين بالدين وضوضاء الماجنين بالسياسة والفكر، تجرَّدتُ من بعض الفتاوى التي تستعر بإحلال الدم وترخص أنفس العباد دون الاكتراث بما أُثر: "دم المؤمن على المؤمن حرام"!، تجرَّدت أيضا من فكر سقيم يستقي أقداح المجون والفحش باسم الحرية والانفتاح والانبطاح، آويتإلى ركن شديد وبدأت أضخ أنهار المال لأستعظم نعمة الإله بما رزق متوشحا قوله العظيم "وأما بنعمة ربك فحدث"، وما أكثر الأموال في الأحلام.. مرَّت السنون تطوي بعضها البعض كطيِّ السجل يوم الحساب، فازدان الإيوان جمالاً وبهاءً ليشعر الرائي بقدسية الخلود وهيبة الحياة التي سأنعم بها؛ فالنمارق والجواري وصنوف الفواكه وغواية الشعراء وسمفونية الزمارين وأسياد الدين والدنيا يزاحمون بعضهم البعض في فضاء القصر، تربَّعت على عرشي فاصطف الكل من حولي، تقدَّمت إحدى الحسناوات فاستأذنت للحديث نيابة عن الجميع، وقالت: "سيدي المهاب، إنَّ الجميع يقدمون لك أجل سلام وعظيم التحية، ثم إنَّهم يقترحون عليك أن تمد جسراً عتيداًذا بأس شديد نحو المدينة الفاضلة والتي تقبعُ خلف قصرك المهاب؛ فأنت أهل لأن تكون منها وفيها"، راجت لي الفكرة فأمرتُ العمَّال بأن يشرعوا لبناء الجسر حتى إذا شارف على الانتهاء ورمقت عيناي أنوار المدينة أتاني شرطي فسألني عن تصريح بناء القصر والجسر فدار بيننا:

الشرطي: أين تصريح بناء القصر؟ ثم من سمح لك بأن تمد جسرا نحو المدينة؟

قلت: يا سيدي هذا قصر في الأحلام، وأنا (منتف) لا أملك قوت يومي، فلا تأخذ الأمر بجدية فهو لا يمت للواقع بشيء!

قال: أنا عبد مأمور، ومضطر لأن أحولك إلى المحكمة!

قلت: أي اضطرار وأي محكمة؟ثم إنَّني تعودت في واقعي أن أُجر إلى عشرات الاستدعاءات والتحقيقات من الشرطة والمدعي العام وهيئة المحلفين والشهود ثم بعد أن يشتعل الرأس شيباًألقى في أحضانالمحكمة لتبدأ فصولا جديدةتستمر لسنين عجاف، فكيف تحملني إلى المحكمة مباشرة؟!

وصلنا إلى المحكمة، وقد بدت ذات إجلال وإكبار، يتوسَّطها رجل تتوقد من وجنتيه هيبة الفصل بين الناس وقداسة القضاء بما أنزل الله، وقد تسنَّد بمساعدين غليظين شديدين عن يمينه وعن شماله، تفرَّس في وجهي الشاحب المتهالك ثم أردف قائلا:أنت سلطان الخروصي؟

قلت: نعمـ هو بلحمه وشحمه.

قال: هل تعلم أنك بنيت قصرا بدون تصريح، ومددت جسراً إلى مدينة يحرم عليك دخولها، لكنك خالفت الأمر؟

قلت: سيدي القاضي، هذا حلم من يقبع في الدرك الأسفل من الفقر والتهميش واللاشيء، هذا غربال المعدمين الذين ينعقون ما لا يفعلون، لا تأخذك العزة بالحكم فتجز رأساً هرم من لهيب الواقع فهرول إلى جنات اليقظة وما أنت بتأويل الأحلام بعليم.

قال: أفصح وأوجز، لماذا بنيت قصراً وشيَّدت جسراً بلا تصريح؟

قلت: سيدي القاضي في عالم الواقع تستميت لأن تحصل على قطعة أرض فانية تجمع على ظهرها بقايا مستقبلك المجهول، تترقب الأمل لأجل غير مسمَّى، تتزوج وتنجب ثم يحدودب ظهرك فتعانق الثرى ولا يزال اسمك في غياهب الظلمات، في عالم الواقع إن منحت ذرة أرض قد تكفي لتلملم بقاياك وزوجك ومن خرجوا من صلبك فلا تجادل ولا تعترض و(لا تفتري) أن بعضاً من عِلية القوم وهبوا شواطئ بأكملها ومزارع بمد البصر و(شاليهات) فاخرة وقصورا وفيللا في عمق المدينة الفاضلة.

قال: صه يا سلطان، فقد أثقلت عليَّ بثرثرتك الرعناء.

(التفت القاضي إلى مساعديه، وأصدر حكمه بهدم القصر والجسر، والحكم عليَّ مدى النوم).

قادني السَّجان إلى صومعة العذاب، وقد بدت عليه علامات الغلظة والغضب وقهر السنين، ولجت إلى مضجعي ويمَّمت وجهي شطر اليمين والشمال، وإذا برجل يزدان وقاراً وجمالاً منزويا إلى ربعة آخر السجن، دنوت منه وهربت له شبه ابتسامة لكنه نظر فعبس وبسر، فحدثته:

قلت: السلام عليكم سيدي.

تلكأ ثم أردف قائلا: أهلاً.. أهلاً.

قلت: مالي أراك عبوساً قمطريراً.. الدنيا بخير وفيها الخيرون أمثالك.

قال: وما يدريك أنني خيِّر؟ هل تعلم أن الله يجزي من يقاتل الزنادقة جنات النعيم بغير حسابوما أنت عليه مأجور يا أخي... (عفوا الاسم الكريم).

قلت: محسوبك سلطان، لو سألتك سيدي لماذا هذا التشنج؟هل تعلم شيئا من دين نبيك الرحيم؟ثم لماذا تشوهون صورة إخوانكم الذين يقدمون الغالي والرخيص في سبيل نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة... (قاطعني)

قال: يا سلطان، هذا كلام المرجفين والمنافقين، الذين لا يرجون نشر دين الله في كل ربوع المعمورة، هذا الفكر السمج الذي تحمله هو من حشر الأمة إلى براثن الخسارة في أفغانستان والعراق وليبيا وفلسطين والصومال وسوريا...وغيرها، فحينما تركنا سنام الإسلام وتركنا الجهاد أصبحنا أضحوكة أمام الأمم.

قلت: يا سيدي، ما هو معيار التحضُّر والتطور الذي تؤمن به؟! لماذا لا توجه هذه القدرات والطاقات للإبداع والابتكار وبراءات الاختراع؟ ثم إنه وقبل أن توجه رصاصتك للآخرين هل تساءلت يوما كم معدلات القراءة لدى المواطن العربي أو المسلم مقابل ما يقرأه المواطن الأمريكي (على سبيل المثال)؟ ألا تعلم أن العلم والقراءة هما جهاد للمرء؟ هل تساءلت يوماً كم نسبة براءات الاختراع للمواطن العربي أو المسلم مقابل ما يبتكره المواطن الصهيوني (ألد أعداء العرب)؟ هل قارنت يوما كيف استطاعت اليابان أو ألمانيا التي طحنتها الحروب لتصبح دولا صناعية من الطراز الأول وتثبت أقدامها في عالم الكبار؟ لماذا لا نزال نتوشح أقولاً وأفعالاً عفى عليها الدهر وشرب، فنقاتل من يخالفنا الفكر أو المذهب أو الدين؟ لماذا نرضع أجيالنا ثقافة العنجهية والتحزب ونقودهم لمستقبل هش لا خير يرتجى منه؟

قال: للأسف، ستظل رجعي منهزم، لا تعرف مصلحة أمتك، ولا تسعى لإرجاع هيبتها.

قلت: هيبة بصوت الرصاص ورائحة البارود ولون الدم لا أتشرف بها.

حينها دخل السجان وقد علت على محياه ابتسامة ماكرة -وهو ما ألفته من رجال العسكر- فنعق بصوته الرخيم: "سلطان.. حضرة القاضي يرغب بمقابلتك"، بدأت تفاصيل الشيطان وهواجسه تعصف بي، فما الذي يريده القاضي وقد أصدر حكمه علي؟! وقفت أمام جلاله وهيبته المصانة، فقال لي: "أستاذ سلطان، حسب المعلومات التي وردتنا أنك معلم تسبرتاريخ الأمم، ونحن نجل العلم وأصحابه مصداقاً لقول شوقي:

((قم للمعلم وفه التبجيلا...

كاد المعلم أن يكون رسولا))

وبذلك، فقد خففنا الحكم عليك بهدم قصرك وتدمير الجسر وإطلاق سراحك.

فقلت: سيدي القاضي، رأيت في منامي واقعاً، فهل أنت بتفسير الواقع بعليم؟

قال: أسرد لي ما رأيته في واقعك؛ فلعلي أصيب بعضاً منه.

قلت: رأيت فيما يرى المستيقظ أنني ومن معي من البسطاءفي مدينتك الفاضلة نملك قصوراً مهيبة بربوة تطل على بحر هادئ تعانقنا أنوار الشمس القارسة، وتحيط بناالمساجد والحسينيات والكنائس، فتصدح بما أنزل الرب من سبع سماوات بصحائف التوحيد، فهل لك أن تفسر لي ما رأيت؟.

اشتاط القاضي غضباً، وقال: هي أضغاث واقع وما أنا بتفسير الواقع بعليم، ثم أمر السجان أن يفردني في زنزانة قبرت في الدرك الأسفل من المحكمة.

-------------

أيُّها السيدات والسادة: لا أزال في حلمي، فماذا ترون؟ هل أستيقظ أم أقبع في زنزانة القاضي؟

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك