اللهو الخفي

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

تتغيَّر مُجتمعاتنا بشكل واضح نحو تغيرات قد تُصيبنا بكثير من الأمراض والآفات الاجتماعية والذهول؛ فالبنت العُمانية لم تعد هي تلك الفتاة الخجولة التي تقبع في منزل والديها بعد الثانوية العامة مُنتظرة القسمة والنصيب تطرق أبواب دنيتها، بل توسع عالمها عن طريق الالتحاق بالتعليم العالي -سواء بداخل البلاد أو خارجها- أو عن طريق العمل؛ فحكمة قديمة مثل "الجوهرة المصونة، واللؤلؤة المكنونة" كانت تُسوَّق للنساء لقصقصة أجنحة الطموح لديهن، هذه الحكمة ومثيلاتها لم يعد لها قبول الآن، حتى في مجاز النكتة للنساء. فحقوق المرأة تتطور جدًّا برعاية العالم كله: مُنظمات حقوقية عالمية، ومنظمات حقوقية وطنية، ومنظمات حقوقية علنية وأخرى سرية تمارس أعمالها لغاية في نفس يعقوب.

ولعلَّ الزواج هو النظام الاجتماعي الأكثر عُرضة للتصدعات، وهو نتيجة لغفلتنا عن مستجدات الأمور يسير بسرعة إلى ما لا تُحمد عقباه؛ فقد بدأ عزوف الذكور عن الزواج يتَّضح شيئا فشيئا، وكبر سن الفتيات وهن ينتظرن النصيب والقسمة، أو ينهين طموحاتهن العلمية. والأصعب من هذا وذاك ارتفاع نسب العنوسة وارتفاع نسب الطلاق وارتفاع نسب الانشغال عن الفتيات الصغيرة/المراهقة، وارتفاع معدلات اللهو المتاح أمامهن للخراب؛ الأمر الذي أفرز نساء عاكفات طوال الليل على شبكات التواصل بحثا عن رفيق أو حبيب أو زوج كيفما كان نوعه. وهنا الطامة؛ فبدلا من الخاطبة التقليدية، وهي امرأة موثوق بها تصف العروسة لأهل المعرس أو العكس وتقرب بين الطرفين، أصبح اللعب أو اللهو الخفي الذي كثيرا ما تكون عواقبه وخيمة على المرأة خاصة -سواء كانت مراهقة أو مطلقة أو أرملة أو عازبة فاتها قطار الزواج- ونماذج الوجع كثيرة.

وجعٌ أوَّل: هذه طفلة في عُرف القوانين الحديثة، سنها لم يتجاوز الخمس عشرة سنة، تسهر بمفردها على أجهزة اللهو/تليفونها أو كمبيوترها، بحثا عن أي تسلية، وكثيرا ما تقع في قبضة هذه المواقع؛ إذا كنت تبحث عن شريك حياتك و...و...و..و. والنتيجة معروفة سلفا، أهلها يمتدحونها ويلقبونها بالعاقلة لأنها لا تحب الخروج كثيرا والتسكع مع مثيلاتها من الفتيات في المولات التجارية والسينمات، وكنت أفضل لو خرجت مع صاحباتها، لو تمتعت بصحبتهن، حتى لومارستْ كل التجاوزات معهن على الأقل تعيش في حيز الواقع المنظور، لكن الأهل فرحون من جلستها بمفردها وبيدها جهازها الحبيب هو كل عالمها، والسهر للفجر مباح طالما هي في إجازة الصيف، العاقلة فاجأت أهلها بالسفر مع صديقها بدون علمهم لدولة لايعلم إلا الله أين هي وانقطعت صلتها بهم، ولا عزاء للغافلين، لنحذر بناتنا في حضننا ولسن معنا.

وجعٌ ثانٍ: مُطلَّقة اكتشفتْ موقعا حديثا للزواج، تبادلت الحديث مع عدة رجال، من مختلف الجنسيات، كانت تحادث أكثر من واحد في الوقت نفسه.. ومع مرار التجارب وفشلها، أخيرا قنصت السنارة؛ فهذا رجل وسيم وناجح وغني وصاحب شركة ومناسب لعمرها ومن بلدها، إذن نجح موقع الزواج الإلكتروني في عقد قران سليم وعلى أرض الواقع، لكن الزواج كان بدون حفل، كما اشترط العريس، خوفا من تعرض استقرار أسرته الأولى من هزات غير محمودة العواقب، تنازلتْ وتواضعت أحلامها كثيرا حتى تتخلص من حالة الوحدة ولقب مزعج اجتماعيا/مطلقة، يضعها في خانة عدم الثقة بكينونتها الأنثوية، تزوَّجت لتكتشف على الواقع أنه مختلف جدًّا عما كان عليه في الواقع الافتراضي المُجمل بالتخيل، تحولت جمالياته السابقة إلى عادية، ومنها إلى سيئة، ومنها إلى كريهة، إلى طلاق مبكر لم يصمد شهرين أمام الواقع الحقيقي.

وجعٌ ثالث: كبرتْ وكبرتْ ولم يطرق بابها منذ تخرَّجتْ أحد، إخوتها الذكور الصناديد يوثقون أحكام بابهم عليها، لا تحتاج لحراسة أبدًا؛ فهي لا تخرج من سجنها البيتي الجميل، لكن خراب بيوتنا ينام في أحضاننا، عرضتْ مواصفاتها وشروطها التي كانت تحلم بحرية الغرب ومساواة المرأة، وحقوق المرأة، وتحضُّر الرجل الغربي واحترامه للمرأة، هذا كان هدفها الواضح منذ البدء؛ لذا لم تعرض نفسها على عربي من باحثي المتعة، بل مباشرة وبكل مهارة حدَّدتْ هدفها، وقنصتْ السنارة أحدهم، قدَّم نفسه بأجمل صورة وتهيَّأ للزواج منها، على أن ترسل له المبالغ لتهيئة ظروفه المعيشية لقلة رواتب بلاده، استلفت من البنك مبلغا جيدا، بدَّده بالهناء والعافية، بعد شهور طوال من الوعود المطاطة، اتفقا على أن يحصل على عمل في بلادها الغنية؛ فهذا أسهل لكليهما، قدمتْ له على عمل في إحدى الشركات، لكن لقاء المحبة والتشوق لم يثمر عن توافق، لقد تفاجأ بها، وتفاجأت به، عرضتْ صورة لها مرمَّمة بالفوتوشوب، وفعل هو أكثر من ذلك عرض صورة لبطل كمال أجسام تبيَّن بعد الرؤية أنه لا يملك شيئا من مواصفاتها، وقعتْ في ورطة النصب، وفي حالة نفسية متصدعة.

.. إنَّها نماذج ربما لا نشعر بها، لكنها تعيش بيننا وتتكاثر، والضحية بناتنا وأولادنا، عالم يتغيَّر بسرعة في غفلة منا. والبحوث الاجتماعية والدراسات الجادة، والرقابة الأسرية والأهم منها الترابط والمحبة بين أفراد الأسرة، شبه منتفية، انتبهوا أولادنا في حضننا وقد تمتْ سرقتهم، ماذا نفعل؟!

الفعلُ كثير، لكن لابد من تلاحم الجهود والاهتمام الرسمي والأهلي.. إنَّ معرفة المشكلة "نصف الحل"، والمشكلات كلنا يعرفها وقد طفتْ على السطح، والحقيقة أن الأمور قد تحسنتْ كثيرا نحو توجه الشباب للاستقرار الأسري والزواج، بعد توظيف الشباب وارتفاع الرواتب، لكن نحتاج لوسائل مساعدة منها ما هو مُتبع في الدول المجاورة؛ مثل: صندوق الزواج، والمعونة للشباب العُماني الراغب في الزواج من مواطنة، ومنها ما يقام حاليا على استحياء وقلة في بعض المناطق مثل الزواج الجماعي وتوزيع النفقات البسيطة على جميع العرسان، ومنها مساهمة رجال الأعمال ورعايتهم لمثل هذا الزواج؛ فأعتقد أنَّ هذه المناحي الاجتماعية أكثر أجرا عند الله لاحتياج الناس لها، من بناء المساجد وتكدسها في كل زاوية، وقد جعل الله الأرض طهورا للمصلين أينما كانوا تسهيلا للعباد والعبادة بلا تضييق، وبلا بناء مبالغ في تكاليفه وزخارفه، والإسلام أصلا ضد البهرجة في المساجد، ومنها توجه الإرشاد الديني والاجتماعي والصحي للاهتمام بتوعية الشباب؛ فالزواج صحة جسدية ونفسية ودينية فيه صلاح الدين والمجتمع، وتشجيع مكاتب الإرشاد الاجتماعي للأسر الجديدة من الشباب، وحل ما يصادفهم من عقبات، وتشجيع فتح مكاتب الزواج والإقبال عليها لتقوم بالدورالبديل لغياب الخاطبة. لقد أغلقت إحداهن مكتبا فتحته لأجل هذا المشروع، لكنه فشل لقلة إقبال الناس عليه، وشعورهم بالحرج من دخول مكاتب كهذه، وقلة الوعي المجتمعي لهذه الضرورة نتيجة لتغيرات الزمن الراهن.

... إنَّها مُشكلة ينبغي التنبه لها حتى وإن كانت ليست طافية على السطح؛ لأنَّ أخطر المشكلات ما كان مندسا في الأعماق ولايكاد يبين، مجتمعاتنا في خطر اجتماعي حقيقي، ولابد من قرع الأجراس؛ فالناس لا تهتم إلا بالملموس المادي الذي يهدد معيشتها واقتصادها، فكم ناح الجميع على تأخر الرواتب هذا الشهر، وكم باكٍ على الريال والدينار، لكن ما يحدث للإنسان لا بواكي له؛ فهل من إفاقة قبل أن يستفحل الضرر؟!!!!

تعليق عبر الفيس بوك