الانتظار

مريم العدويَّة

"فإنَّ الموت يعشق فجأة مثلي، وإن الموت مثلي لا يحب الانتظار".

محمود درويش

****

نضعُ رؤوسنا حالما يستنفدُ اليوم القوى من أجسادنا، وقائمة طويلة من الأحلام والأماني والنيات بكافة ألوانها تزدحم على قوائمنا. ولكن كيف حال من لا يملك أمراً ينتظر التنفيذ؟ أو مناسبة ما؟ أو أي شيء؟!

كيف يمكن للإنسان أن لا يعيش على أملٍ ما سيأتي بعد حين وبعد أيام وبعد العمر كله!؟ الانتظار كالعملة تماماً؛ في وجهه الأول سأم وقلق، وفي وجهه الثاني زيت يجعل لطاحونة الحياة ديمومة لا ملل فيها؛ فكلُّ يوم وله طحينه وخبزه. والسؤال الذي يلح علينا الآن: ماذا يُمكن للمنتظر أن يفعل ليبدد جيوش الدقائق التي تتكالب عليه إذن؟

يُقال ليستغفر ويحوقل؛ فيرتفع ميزانه ويكسب آخرته.. ماذا لو أن الانتظار درس لا ينبغي تفويته ففي كل مرة له عِبر مختلفة؛ فهو يعلمنا الصبر، والنظر إلى الحياة من جوانب مختلفة والتأني، وأن لكل شيء وقته وفرصته، وهو كذلك يجعلنا على أهبة الاستعداد دائماً، ويمنحنا دافعاً لنبقى على قيد الحياة؛ ففي كل مره تُضيِّق علينا فيها الحياة الخناق ونعتزم الرحيل يبقى لدينا بعض من الأمل ننتعلهُ ونولي وجوهنا شطره.

وحالما يفقد المرء منا شيمة الانتظار تتلبسهُ شياطين الكآبة والمقت؛ لأنه يفقد كينونة ماذا بعد وما يتبعها من ماهية القادم الغامض؟ تلك التي تستفزنا لنتشبث بأيامنا في الحياة، وندفع بأفعالنا المختلفة نحو ما ننتظره من أحلام وأمنيات.

وكما ذهبت نوال السعداوي برأيها في ذلك، فقالت: "لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار... الانتظار يحول الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى".

فما أشد تعاسة أولئك الذين لا نصيب لهم من الانتظار، يدفعون به مناوشات الوقت والضجر والوجع، ويغسلون فيه ما علق على ثيابهم من كدر وحزن.

هبْ أنَّ الانتظار حمل أمتعته وغادرنا أي المساحات تملؤنا بعدها؟

وليست تلك كل حسنات الانتظار؛ فالقائمة تطول ولا تنتهي أو تقف عند حد ما.

والذين لا يحبون الانتظار هم أشخاص ضجرون ويميلون إلى أشياء تشبه الموت مثلاً؛ فالموت يأتي دون سابق إنذار وقتما شاء وإن أعطى بعضاً من التنبيهات قبل ذلك فلا يمكن التنبؤ بلحظته الفعلية. وإنما هم يقعون فريسة الانتظار الفارغ؛ فهم شاءوا أم أبوا سينتظرون! لكنهم يُفقدون الانتظار لهفته وما فيها من حلاوة وكنوز.

لننتظر الغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى والحلم حتى يغدو واقعاً؛ فإن الانتظار يمنحُ للحياة ملحها وسكرها؛ كيف لا وهو الذي يزيد الأشياء المرتقبة جمالاً والحياة لهفة وحياة فوق الحياة. ولا ننسى أن نأخذ حقنا من الانتظار بالمقابل كاملاً؛ فمثلما هو يقتص من ساعاتنا وليالينا بل وأعمارنا، كان لزاماً علينا أن نأخذ حقنا منه. فلنأخذ منه وقفة تأمل واستراحة وإيماناً وتفاؤلاً وحسن ظن، وما أحسن طالعنا إن وفقنا في ذلك.

ولا يتنافى الانتظار مع السعي والعمل، فلا شيء يجمع بين التواكل والانتظار، ولا يعني أننا قررنا أن نقف في طابور الانتظار، أن نكف عن المقاتلة من أجل أهدافنا وأحلامنا بالوجه الصحيح.

رُبَّما يغلبنا الأسى ونحن نكرر كل يوم قائمة أمنياتنا المنتظرة، وحديثُ أنفسنا يقول: لماذا طال بها الأمد؟ لو تأتي اليوم... لو تأتي كلها أو جزء منها لقد سأمنا.

ونغفل في دائرة جهلنا تلك أن خلف الغيوم نجوم كثيرة ستشرق بها شمسنا، وإن كان أقصى حلمنا نجمة، فإن جيشاً من النجوم سيكون من حظنا، فقط لننتظر.

عوِّدوا أنفسكم على دعوة الشروق إلى حياتكم في كل شؤونكم ولا تسمحوا لتأخيره أن يعرقل مسيرتكم. بل ادفعوا إليها بمناجيق الإيجابية ورددوا في كل تأخيرة خيرة وادفعوا بالانتظار نحو ما يداعب غاياتكم.

فصباح السعادة قريب، لا يبتعد طالما كان الأمل لونكم وكل الرجاء به بإذن الله لا يخيب. ومن جانب آخر، ومثلما قال آنا فرويد من قبل: "في بعض الأحيان أجمل شيء في الحياة يأتينا دون أن نتوقعه أو نعمل من أجله، فيكون بذلك هبة الحياة". وفي ذلك ثقةً وإيمان يدفعان بالمرء إلى احتساء ساعات الحياة على الرحب والسعة.

تعليق عبر الفيس بوك