لا أقول وداعا عمان.. ولكن "إلى لقاء"

عبد الله بن محمد الخاطر **

** سفير دولة قطر المعتمد لدى السلطنة

حين يتم تكليف أي دبلوماسي للعمل بأي دولة يكون شغله الشاغل جمع أكبر معلومات عن هذه الدولة وطبائع شعوبها حتى يهيئ نفسه للرحلة المجهولة التي هو في طريقة لسبرها، وهو شيء شائع في عالم الدبلوماسية المعروف.. وعندما صدر التكليف لي بالمباشرة في سلطنة عمان لم أكلف نفسي عبء القيام بهذه الجزئية "رغما عن كونها أول زيارة لي وهو تقصير أقر به"حيث إن طابع العلاقات التي تجمع بين دولتينا وشعبينا وتاريخ العلاقات المشتركة والارتباط القبلي وعلاقات المصاهرة التى تجمعنا جميعا في بوتقة دول مجلس التعاون، يجعلني في حل من البحث والتقصي.

وعندما وطأت قدماي أرض مطار مسقط الدولي، لم أشعر بأنني قد خرجت من مطار الدوحة فالملامح هي الملامح والتعامل هو التعامل إن لم يكن أفضل، والأريحية كانت هي ديدن كل من التقيت بهم، وعلمت بأن إقامتي في هذا البلد الطيب أهله سيكون لها ما بعدها.. وهو ما كان بالفعل.. فلقد توجت هذه السنوات بالكثير من العلاقات الجميلة والارتباط العاطفي بالمكان وأهله، وصدق حدسي في امتداد صداقاتي وتشعبها وتخطيها لحاجز الرسميات والوصول إلىعمق المجتمع العماني الذي احتواني بكل حب وصدق.

كنت أعلم أنّ الإخوة العمانيين يكنون الكثير من مشاعر الأخوة الصادقة لإخوانهم القطريين، إلا أنّ ما عايشته ولمسته طوال فترة إقامتي أعلمني أنّ الواقع أكبر بكثير مما يقال، وأن كل ما سمعته عن خصوصية هذه العلاقة ما هو إلا نقطة في بحر المحبة الصادقة، والأخوة الحقة الخالية من كل زيف، وصفحة من دفتر مليء بكل ما هو جميل ودافئ من كلمات لا توفي من أحببتهم حقهم، ولا تستطيع إيصال حقيقة مشاعري تجاههم، وتتقاصر أمام هذا الكم الهائل من التقدير الذي أحتفظ به في دواخلي لهم، ولو كان قدر الدبلوماسي التنقل من محطة لأخرى فإن قدر القلب أن يبقى حيث أحب ومع من أحب.

شهدت الفترة التي قضيتها في ربوع بلدي الثاني عمان أحداثا كثيرة على مستوى العلاقات الثنائية كنت خلالها شاهدًا على مدى التنسيق بين بلدي قطر والشقيقة عمان بما يخدم المصلحة المشتركة بين بلدينا، حيث تم في هذه الفترة التوقيع على الكثير من الاتفاقيات في المجالات السياسية والاقتصادية والاستثمار المشترك، ولقد أحسست بالاعتزاز والفخر حيث ساهمت بجزء ولو يسير في تحقيق ذلك، وكنت استمد هذا الإحساس من خلال شعوري بمدى التزام القيادتين الشقيقتين نحو شعبيهما وعروبتهما، كما شهدت فترة وجودي في سلطنة عمان الشقيقة لقاءات عدة بين سمو الأمير الوالد الشيخ حمد وسمو الأمير الشيخ تميم بعد توليه زمام الأمور، وجلالة السلطان قابوس حفظهم الله جميعا كان لها عظيم الأثر والنتائج في تطويرالعلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين.

هكذا هي الدنيا تجمع لتفرق وتفرق على أمل اللقاء، وبأنه لا بد لنا من يوم نصحو فيه على حقيقة الوداع رغم الآلام التى يسببها لنا، ولكن تبقى لنا الذكريات الجميلة التي ستظل محفورة في مكان قصي يستحيل أن تصلها ممحاة الزمن ولو طال، وستظل ملجأ لي في قادم الايام أتزود منه كلما أحسست بعطش اللقيا وجوع الحنين، فعمان لا تنسى بمرور الأيام والسنين، وشعب عمان وأصدقاء عمان خالدون في الوجدان يتمترسون داخل القلب بصدق أحاسيسهم ونبل مشاعرهم.

لقد وجدت في عمان كل ما يبعث على الراحة والطمأنينة، فهي دولة بعيدة كل البعد عن كل ما يبعث على القلق في الدول الأخرى، فهي واحة أمان في زمن كثرت فيه القلاقل والمشاكل، تجد نفسك فيها مجبرًا على مسايرة أهلها في طباعهم السمحة ونفوسهم الصافية وتقبلهم للآخرين بروح الألفة والعفوية، ويكفيأهل عمان فخرا دعوة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لهم بالقول (رحم الله أهل الغبيراء(أهل عمان) آمنوا ‏بي ولم يروني)، وما قاله خليفته أبوبكر عنهم عندماخاطبهم قائلا: معاشر أهل عمان إنّكم أسلمتم طوعاً لم يطأ رسول الله ساحتكم ‏بخف ولا حافر ولم تعصوه كما عصيه غيركم من العرب، ولم ترموا بفرقة ولا تشتت ‏شمل، فجمع الله على الخير شملكم ثم بعث إليكم عمرو بن العاص بلا جيش ولا سلاح ‏فأجبتموه إذدعاكم على بعد داركم وأطعتموه إذ أمركم على كثرة عددكم وعدتكم فأي ‏فضل أبر من فضلكم وأي فعل أشرف من فعلكم.‏

فيا أهل عمان طبتم وطابت دياركم، ونعمتم بما حباكم الله به من أخلاق، ودمتم ذخرًا لكل إخوتكم العرب والمسلمين، ولسوف يكون ملتقانا قريبًا إن شاء الله، فمن عاش بينكم يوما يصعب عليه أن ينقطع عنكم، فما بال من عايشكم تسعة أعوام ونيف، ووجد منكم كل عون ومساعدة، وعاملتموه كأخ لكم وفتحتم أمامه كل الأبواب، فحري بي أن أواصل ما قطعته ظروف العمل ومقتضياته، فعلاقتي بكم منذ أول وصول صارت علاقة أزليّة ما دام في العمر بقيّة، وحنينا لن ينقطع ما دمت حيًا، فشكرًا لكل من صادفتهم خلال هذه الفترة الجميلة، وشكرا لكل من لم يسعفني الحظ بالتعرف عليه، فيكفيكم أن تكونوا عمانيين لتنالوا حبي واحترامي.

أخيرا وليس آخرا، أودعكم وذاكرتي مثقلة بذكريات جميلة لن ينضب معينها بإذن الله، وأفارقكم وفي القلب حسرة، وفي العين دمعة أتمنى ألا تجد طريقها للنزول كوني عائد، عائد لمعانقة كل هذا الألق والجمال وطيب المعشر في بلد تجمعت فيه صفات الشعوب الأصيلة، وأودعكم كدبلوماسي وأبقى معكم كإنسان قضى شطرًا من عمرة العملي وإنتاجه السياسي في بلدكم المضياف، على أمل اللقيا قريبا في هذه الأرض الطيّبة التي تنعم بكل ما هو جميل، تحت رعاية وعناية الله ثمّ صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله وأبقاه، ولسان حالي يدعو له بكمال العافية والصحة حتى يواصل ما بدأه من مسيرة النهضة الشاملة لهذا البلد الكريم.

تعليق عبر الفيس بوك