اختراع أرض جديدة للحلم

رحاب أبو هوشر

تتراءى لنا المنامات أطيافا بعيدة، نلاحقها، ولا نكاد نلمسها، حتى تتبدل وتتحول، ثم تتلاشى وتختفي، ولا نظفر بتذكر شيء منها، وقد نستفيق قبل أن نسمع العبارة التي كنا نتوق إليها، كي نقبل على أيامنا بهمة وحماس، أو قد نخرج من الحلم بأنفاس محبوسة، نرتعد فزعا مما كان يحدق بنا، بين مخالب حلم قاسٍ لا يرحم.

لا ينبغي أن نتكدر إن رأينا حلما مزعجا، وربما علينا أيضا ألا نبالغ في التفاؤل إن كان مفرحا، فما الأحلام إلا سلوى العقل الواعي في وحدته، حين يغفو الجسد. يجأر بآلامه، وتنفلت رغباته من القيود، ويلقي بحمولات الخوف والقلق، لنسترد من خلال عوالم الحلم توازنا يمكننا من رتق ثقوب ولأم جراح وانكسارات.

فحين نستسلم لنداء النوم، تتحرر الروح من وطأة الجسد المنهك، وتذهب للتجوال في أرض الأحلام. لن يهم إن كانت الوسادة من قش أو قطن أو ريش فاخر، وحتى إن كانت مجرد عتبة باردة! فكل النائمين يتساوون في عوالم الروح الصاعدة.

في يقظة الجسد المشحون بالحاجات والطموح، وهو يحيا متعثرا بحجارة طرقاته اليومية، ويحاول النهوض من كبواته، ما يضيرنا لو ذهبنا بوعي إلى أحلامنا، من خلال الأفكار وإشعال المخيلة، ما ندعوه الأمل. لن يجدينا شيء، إن جعلنا رؤوسنا حجرا يسند صخر الواقع، فلندع الأبواب مواربة لأحلام تتسلل، وتصنع أملا يشقق يباسة الصخور، وينفض عنّا ثقل الهموم.

في صيرورة الحياة، ليس ثمة مغلق ولا مطلق، ولا حدود للسماء في امتداداتها، فالحياة منذ الأزل كتاب مفتوح على القراءات، لا يعيق تدفقها بحث مؤرق عن الفواصل والنقط بين الكلمات، أو تصيد احتمالات ما تخفيه البساطة والوضوح.

وللأيام قانونها الصارم، يحكمه يقين التبدل والتناوب، ما بين ليل حالك، ونهار وضاح. ما بين أسى معبأ في زجاجة الزمن، وأوقات تصب الفرح في ماء القلب. لا الخوف سيلقي لنا حبل نجاة، إن وقعنا في أحد الأفخاخ، ولا إغلاق النوافذ سينهي عصف الرياح.

وليس في العمر متسع كثير، لتفاسير تعيدنا للأسئلة الأولى. نشرب الماء مستطيبين عذوبته، يمنح الجسد سر الحياة، حين يطفئ نيران الظمأ، ولم تكن لتسعفنا محاولة تفسير الماء، أو تعريفه وتحليل كيمياء عناصره، وربما هكذا هي الحياة، ماء يستعصي على التفسير، لكنها تبقى الحياة وكفى.

ما الجسد إلا إناء الروح، ثوبها اللاهث، تتعدد ألوانه وأشكاله، وقد يضنيه التعب، وما التعب إلا غبار أيام العيش المتوالية، لكن ثمة مفاتيح للجسد المتعب، تعيد له الفتوة والحيوية، مثلما نغسل ثوبًا مغبرا، فيسترد ألوانه وجماله، وليس هذا مدعاة للقلق، فالقلق الجدي يرتبط بالغبار إذا تراكم والتصق ببشرة الجسد. مثل هذا التعب فقط يتسرب إلى مساحات الداخل. غباره سيعلو الروح، ويسد منافذ الهواء والشمس إليها، ولا يصلح لعلاجه حلم وأمل يمارسان الاحتيال على تعب الطريق.

هذا تعب لا يقتصر على أعضاء الجسد، ويتسلل مثل السم الخبيث، ببطئه وخفته، لينقض على تكوين الشخص، النفسي والعاطفي والذهني، ويحتل غرف الروح بقتامته. في مثل هذه اللحظة، لا نعود ندري، ولا نفهم سر عجز فراش القلب عن الرفيف، أو سر صلادة الرأس وخلوها من الأحلام. كيف يحل الهرم فجأة ولماذا جف الأمل؟ هل هي أنواء جثمت على أجنحة الفراش، أم أنه كان ثقل الريح وعنف ضرباتها؟

كثيرا ما تكون الريح ثقيلة، ولا تجري بما تشتهي السفن، لا سيما في عالمنا اللاهث، الطاحن الإيقاع، غير العابئ بالمتعبين أو المتمهلين في ملاحقة صفارات محطاته. صار لزاما على الشخص أن يبحث عن موطئ قدم، ويصنع مساحة تشير إليه، فيتنبه الراكضون لوجوده، كيلا تسحقه الخطوات، قبل أن يفتح الفجر باب النهار. لكن النهر يموت إذا توقف عن الجريان، واستسلم لسطوة الحصى. ثمة أنهار ماتت، حين خفت خرير مائها، وجفت دون أن تلحظ يباسها الكائنات، أما الشمس فهي فتية كل يوم، ولأنها كذلك يتجدد النهار. في الرضوخ للتعب الممض، يكون الشخص ليلا، عيناه مغمضتان على نشيج وألم، وفمه ممتلئ بالماء العجاج. يجمده الغبار الكثيف، ويصيبه الخوف بالشلل، يخاف الاختناق بالماء المالح، ويخاف كذلك أن يفتح فمه ويدلقه في وجه الأيام.

أثمان الحياة باهظة في كل الأحوال، الفارق يكمن في جدارة الخيارات المدفوع فيها الثمن. ماذا سيتبقى من الحياة إن صار الشخص مغلولا إلى سلاسل تجرجره نحو الموت والعتمة؟ ولماذا تنطفئ جمرة الأمل بأكداس الغبار. ليس هناك أكثر قدرة وحاجة من غارق في غبار التعب على "تربية الأمل"، واختراع أرض جديدة للحلم.

تعليق عبر الفيس بوك