محطات: ابن بركان "مزيان بالزاف"

المعتصم البوسعيدي

خيط رفيع بين الوهم والخيال، إصرارٌ عجيب يفصل الممكن عن المُحال، وهناك صوت الأم ينبعث في روحِ الفتى: لست لكرة القدم "خُلقت" أنتَ ابن بركان الذي سيولد مرة أخرى من أم ثانية؛ "أم الألعاب" أمك التي ولدتك على بساط "برتقالي" مزخرف بالخطوط البيضاء وخط بداية تنطلق منه إلى خط نهاية لا حدود له تحمل في صدرك قلادة كُتب عليها قوله تعالى "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم"، هي تلك التي كنت تُقبلها عند كل سباق.

هشام الكروج الرياضي العربي الأفضل في نظر الكثيرين -وأنا منهم- لمسيرته الحافلة بالإنجازات العالمية والأرقام القياسية والطموح الذاتي العالي، ولد نجم العرب في مدينة بركان المغربية، وقد أراد في محطته الأولى أن يكون "بادو الزاكي" الجديد حامي عرين الخشبات الثلاث، لكن قرار أمه ذهب به إلى المضمار؛ حيث صورة "سعيد عويطه" والحلم باستعادة "الريادة" من قبضة الجزائري الرائع "نور الدين مرسلي".

سطع نجم الكروج في بطولة العالم لألعاب القوى للشباب في "سول" حين أحرز المركز الثالث لسباق 5000 متر، ثم تخصص في 1500 متر وأحرز بطولة العالم ببرشلونه داخل القاعات، قبل ان يتألق محرزًا فضية العالم "بجوتنبرج السويدية" عام 1995 في الهواء الطلق والتي مثلت الاطلالة الأولى لمسيرة "ملك" المسافات المتوسطة على مستوى العالم، مسيرة لم تكن كلها شهد؛ بل خالطتها عثرات متعددة بدأت في أولمبياد أتلاتنا 1996 حين كان هذا الشاب اليافع مندفعًا بحلم كل "المغاربة" الحصول على الذهب واسترجاع "شارة" القيادة لكن الحلم تحول "لكابوس" حينما اصطدمت قدمه بقدم البطل "مرسلي" ليسقط وتسقط معه الدموع الغزيرة رغم مواساة الجميع له بما فيهم البطل الجزائري الذي احتضنه وقال له "ستحمل اللواء من بعدي"، كما أنه تلقى اتصالاً من الملك الحسن الثاني -رحمه الله- الذي قال له "أنهض أنت البطل" في دلالة واضحة على استشراف نجومية هشام.

نفض المغربي غبار الأولمبياد وتحول السقوط لتحليق؛ حيث انتزع بطولة العالم وحطم خمسة أرقام قياسية، وبات رقمه (3:26) لـ1500 متر في يوليو 1998 بروما هو الأبرز والصامد حتى هذه اللحظة، أربع سنوات تربع فيها هشام على العرش العالمي وفي الأفق تلوحُ أولمبياد سيدني 2000 ولا يُسمع في الأرجاء سوى النشيد الوطني المغربي بعد السباق، إلا أن مفاجأة مدوية خطفت "الأبصار" وثواني بسيطة جعلت من الكيني "مانديني" يستأثر بالذهب تاركًا لنجمنا فضة لا "تغني ولا تسمن من جوع" بل إنها سببت "شرخ" أكبر أُغلقت معه الأبواب وصدى قرار سيعلنُ الاعتزال، وبات البطل يعيش مرحلة الشك خاصة وان الاعلام المحلي بالتحديد كما وصفه هو "شن حملة عليه في تلك الفترة"، ودخل حينها في النفق المظلم مرة أخرى.

محطة الشك واليقين لدى الأبطال يجب ان تتدارس أكثر من غيرها، هنا يظهر معنى اتخاذ القرار والتماسك وخط الرجعة الذي يُبنى عليه ما هو آت، وإيمان الكروج بقدراته اهتز بالرغم من قوته وارتباطه الوثيق بالله؛ حيث كان يمارس طقوسه الدينية في كل سباقاته، لا يبارحها لا عند سطوته ولا في لحظة انهياره، فأبن بركان ردد على مسامع الناس أن القرآن هو طبيبه النفسي، لذلك عدل عن فكرة الاعتزال وانتفض مقررًا العودة للمضمار، وهنا بدأت قصة جديدة بعثت الحياة في فريق العمل مع مدربه القدير عبد القادر قادة والدكتور حسن الزجلي وإخصائي العلاج الطبيعي عمر الحكيم ورفيق تدريباته والمقرب منه الحسين بنزريكنات الذي يعتبره الكروج رجل المهام الصعبة وأحد عوامل نجاحه، بالإضافة إلى المدير التقني للمنتخب المغربي عزيز داودة وغيرهم، وسريعًا حصد بطولة العالم داخل القاعات بـ "لشبونه" 2001 أتبعها بذهبية العالم للمرة الثالثة بـ "أدمونتون" في نفس العام ثم كان تغيير الاستراتيجية ورغبة التسابق في المسافات الأعلى، وبالفعل كانت محطة باريس 2003 شاهدة على التتويج الرابع بذهبية (1500 متر) مع فضية 5000 متر كانت أقرب للذهب، منحه هذا التتويج اختياره كأفضل رياضي بالعالم للسنة الثالثة على التوالي، وبات الحلم هو أولمبياد أثينا 2004.

احتضنت "إفران" المغربية المعروفة في إعداد الرياضيين هشام الكروج استعدادًا للأولمبياد لكن الصدمة خبأت تحول في خطة الإعداد حيث عانى البطل من حساسية في الجهاز التنفسي خاض معها فترات صعبة وفحوصات متعددة، أضفيت لها سقطاته في عدة ملتقيات علقت عليه الصحافة العالمية ببداية النهاية، وعلى متن طائرة عائدة من رحلة علاجية بفرنسا لم تعطه الشفاء المطلوب فاجأ هشام طبيبه بطلب مقابلة دكتور مغربي مختص لعله يجد معه الحل وكان الدكتور "سعد الأيوبي" هو ذلك الرجل الذي استطاع أن يعيد له شخصيته خلال (35) دقيقة فقط وبوصفة دواء بسيطة، ويعود للواجهة قبيل الموعد الأولمبي دون "شوشرة" إعلامية؛ حيث كان مستبعدًا أن يفوز.

العائلة بالنسبة "لأبو هبه" هي الداعم الأول مع دعاء الوالدين ومباركتهما له في كل خطواته، لحظة الحقيقة حانت و(1500 متر) باتت المشهد التوتر للجميع، لم يفعلها مرتين من قبل والأمل في "درة العرش" التي تنقص ملكه، التحليل والتقييم في مرحلة التصفيات أعطت أرقامًا مشجعة جدًا لكن المنافسين وشبح الفشل لا زال راسخًا في الأذهان، حافظ على إيقاعه، استطاع أن يجد له مكان في المقدمة، ثم أنطلق معانقًا حلمه، أخيرًا المارد الأولمبي خضع له، أخيرًا بكى فرحًا بالتتويج كما لم يبكي من قبل، بل أنه طمع في تتويج آخر وفعلها أمام صاحب الرقم القياسي "بيكيلي"، يا لها من لحظة فارقة تبعها استقبال الملك المغربي محمد السادس الذي وشحه بوسام العرش من درجة قائد، كما منحه الاتحاد الدولي لألعاب القوى في هذا العام جائزة أفضل إنجاز خلال السنة، وحصل على جائزة مجلة "تراك آند فيلد نيوز" الأميركية، وجائزة "رياضة وفضيلة" من الرئيس السنغالي السابق عبدو ضيوف، بالإضافة لجائزة "المسار الرياضي المتميز" من الاتحاد الدولي لألعاب القوى في مونت كارلو.

اعتزل الكروج في العام 2006 ولأنه لم يحظَ بالتعليم الكافِ لانشغاله بمضامير السباقات فقد استأنف عام 2009 دراسته في الولايات المتحدة الأميركية في شعبة التدبير والتسيير بجامعة "أوريغون"، والكروج صاحب اعمال خيرية كثيرة وله في مدينته جمعية خيرية تُعنى بأطفال وشباب المدينة الذين يحاولون دخول عالم ألعاب القوى، ومع هذه السيرة المطرزة بالذهب يجب أن نترجم معانيها على واقع رياضتنا العربية وخاصة المغرب التي لم تعد هي المغرب قائدة ألعاب القوى العربية بأبطالها العِظام، علينا ان نعيد قراءة التاريخ مرة أخرى ونستلهم العبر، فالكروج كافح كثيرًا ليكون.. أبن بركان "مزيان بالزاف".

تعليق عبر الفيس بوك