لا أحد يملك الحقيقة

عهود الأشخري

استوقفتني لوقت طويل سيدة تقرأ من الإنجيل بكل قداسة، تأملت طويلاً هذا المشهد لأنّ السيدة كانت تبدو مضيئة من مكان ما، الضوء يخرج من داخلها إلى العالم وكأن لا حاجز بينها وبين اليقين، لقد أحسست بذلك لوهلة، وقرأت في ملامحها الكثير من العوالم والكثير من الغايات القريبة، لكن كيف يمكن لوجه أن تظهر فيه كل هذه العلامات التي تقودني إلى سؤال واحد في النهاية.. هل يمكن أن يكون اليقين سهلاً وواضحًا إلى هذه الدرجة؟ نزيه أبوعفش يقول: "أنا الآخر وأنت آخر الآخر/ كلانا يملك الحقيقة لكن لا أحد يملك الحق/ سيخلد الشر! كلانا يملك الحق لكن لا أحد يملك الحقيقة!"

وجب علينا طرح التساؤلات إذن، وأعتقد أنّ هذه مهمة أساسية لوجودنا هنا، أو على الأقل مبرر حتى لا نقع في قفص الأفكار المبتذلة التي يرميها الناس علينا في كل وقت وكأنها مسلَّمات وجدت حتى تكون طريقاً لكل كائن على هذه الأرض. إن طبيعة الإنسان أن يكون محبًا للاطلَّاع، لا أعني بهذا الاطلَّاع توجه كل شخص في العالم للقراءة والانعزال مع الكتب لساعات طويلة رغم أن ذلك لا يبدو سيئاً على الإطلاق بالنسبة لي، لكن في الحقيقة لا يمكن للوعي أن يكون محصورا في كتاب فقط. إن التجربة هي الأساس/ تجربة الكائن في وجوده هنا، كل كائن لابدّ أن تكون له تجربة ليست حتى يبقى له أثر، لكن لكي يُعبّر عن نفسه، لكي يكون له سبب للبقاء، سبب ليحب ذاته إن كانت حقاً تستحق الحب، إننا جميعاً ودون استثناء جديرون بتجربة الحياة لكن لا بد أن تكون هذه التجربة حقيقية بالنسبة لهذا الكائن على الأقل بحيث لا يضطر لأن يعيش أدوارا كثيرة حتى ينتهي من هذه التجربة، عليه أن يفتح آفاقًا كثيرة لذاته وأن يسافر في السؤال إلى أن يصل إلى إجابة يمكن أن تكون مقنعة.

والمهم هنا وهذا ما أكرره دائماً حين أقول: يا صديقي.. لا يكفي أن تؤمن بفكرة حتى تكون صحيحة، حقاً لا يكفي! ذلك أن الإيمان لا يأتي هكذا مفردا، فمن الضروري أن يسبقه وعي، لذا فالوعي الذي يتأتى عن طريق المعرفة أولاً، ثم يتبعه الإيمان، من هنا فأنا أؤكد أن الإيمان دون وعي لا يعدّ إيمانًا خالصًا ولا أصيلاً. المشكلة التي نعاني منها الآن أن البعض يتمسك بفكرة معينة - يؤمن بها- وهو في الأساس لا يملك أي وعي عن مكنونات هذه الفكرة، إضافة إلى ذلك نحن حقًا مستائين جدًا من الأفكار التي تنتقل من جيل إلى آخر ولا يمكن أن تُمس وكأنها شيء مُقدّس وهذا ما يمكن أن نسميه (عادات وتقاليد) إن صح هذا الاسم، مع الاقتناع بأنّ لكل زمن حاجاته الخاصة التي لا يمكن أن تستمر لزمن آخر إلا بعضها، لم نحن ملزمون بالبقاء على أفكار قديمة في حين أن بإمكاننا التفكير وأن نتوسع أكثر فأكثر في روح هذا العالم.

وأقول دائماً إنّ السينما هي التي تحتمل كل هذه الآلام وتستطيع إيصالها لنا بكل دهشتها، ما تحدثت عنه في الأعلى أرى توافقا بينه وبين فيلم إيراني عالج قضية التمسك بالأفكار حتى وإن كانت خارقة. فيلم (طائر أبو الحناء) للعظيم دائما (مجيد مجيدي) والذي يحكي قصة الطفل المسلم (علي يار) الذي ظن أنه تسبب في موت صديقه (غلام حسين) بقصد مشاكسته فقط، فيبدأ رحلته في البحث عن من يستطيع شفاء الموتى، فيلتقي أثناء البحث بصديقه المسيحي (أندريه)، ويعبر كل واحد من الصديقين عن مقدرة دينية حتى تعيد الصديق الميت إلى الحياة، ذلك أن علي سمع عن نفس المسيح وعن قدرته على إحياء الموتى وظن أن أندريه يملكه بحكم أنه مسيحي لكنه أجابه بكل ذكاء الطفولة: (أنا مسيحي لكني لست المسيح!)، وتظل محاولات إنقاذ الطفل الميت مرة عن طريق أفكار الطفل المسلم ومرة أخرى عن طريق أفكار الطفل المسيحي، لكنها كانت غالبها أفكار خاطئة نشأت في الطفل عن طريق أفكار قديمة، حتى أنهم سيذهبون للطبيب لسؤاله إن كان بإمكانه شفاء الموتى فيجيب أن العلاج للأحياء، الأموات لا يحتاجون للعلاج! وبهذه الطريقة تستمر أحداث الفيلم، ما يريد أن يقوله طائر أبو الحناء أن علينا التصالح مع تجديد الأفكار، ألا نبقى في وهم الأولّين وخرافاتهم.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك