شمعة من نيويورك


فايزة الكلبانيّة
Faiza@alroya.info

"نيويورك"... ثالث أفضل المدن السياحية عالميًا.. كان إصراري على البقاء فيها وتجربة حياة نيويورك على وجه الخصوص؛ كونها تلك المدينة الصاخبة بحد ذاته حلمًا طال انتظاره.. نيويورك بولاياتها الخمس والتي تعج بضوضاء المارة والمشاة عبر أروقتها وشوارعها المقسمة بين الشرق والغرب.. كلٌ يسير بعُجالة لهدف وغاية لينجزها سريعًا.. والوصول لهدفه يتطلب منه المشي مع الآلاف من المشاة من مختلف جنسيّات العالم الممتد.. تعرفهم من هيئتهم، وملامحهم وبشرتهم ووجوهم، وتارة من ملابسهم والبعض من إلقائهم التحيّة عليك مناديا "السلام عليكم" ولو من بعيد مصحوبة بابتسامة فرح على محيّاه لكونه رأى مسلمًا ويا لفرحته لو كان عربيًا أو خليجيًا، لرأيت في عينيه نظرة الشوق والحنين، ومعاناته مع "الغربة" وتعب وكفاح السنين.

خطوتُ خُطواتي المتفائلة من محطة الحافلات القادمة من هارتفورد إلى نيويورك، وشعرت بفارق الحياة والحيوية وعجلة الزمن وتقديس الوقت، ووقع حركة الأقدام المتسارعة بين الممرات والمحلات وزحمة الناس بين ذهاب وإيّاب تحت اﻷرض، فأيقنت حينها أنني أقف حقيقة وليس حلمًا أمام ناطحات السحاب والمباني الشاهقة التي اعتدت فقط على رؤيتها في أفلام هوليوود، والتي تكاد تلتصق ببعضها لقرب تصميمها واستغلال حيّز البناء بين المبنى والآخر، على الرغم من أن لكل مبنى تصميمه الخاص، متّخذين من التوسّع الأفقي نظامًا لمبانيهم مما يضفي على المكان والطرقات لمسات من الفخامة والجمال، لاسيما في الفترة المسائيّة مع الإضاءات وإنارة الشاشات الإعلانيّة وسط المباني والتي تحلو فيها الحياة أكثر من أي وقت آخر..

أعيش أيامي هذه في ليالي نيويورك ونسماتها الباردة نوعا ما وأحمل في طيّات ذاكرتي أحاديث وذكريات لأناس أعزاء شاءت أقداري أن أرى ذكرياتهم اليوم واقعًا تلك التي نسجتها في خيالي من أحاديثهم التي لا تفارقهم يومًا لكونهم عاشوا بين أروقة نيويورك سنوات أخذت منهم الكثير من أعمارهم ليصنعوا ذات يوم ﻷنفسهم سلاحًا لينفعهم في فوضى الحياة المتعاقبه آنذاك.. حاولت أن أقف معهم ﻷعيد معهم شريط الذكريات، فأعيش بصحبتهم لحظات الحنين إلى حياتهم الجميلة هنا يومًا.. وتأبى أن تفارق سجل ذكرياتهم الحافل بأيام وردية وأخرى سوداوية أو قد يشوبها نوع من الضبابية.. فالصور التي ألتقطها لمحطات عبورهم التي يصفونها لي بذات الأرقام والملامح وأحيانا بنفس الوجوه التي لا تزال صامدة في نيويورك هي المسكن والرياق الوحيد لحنينهم.. فأعجب منهم ومن قوة ذاكرتهم التي مازالت أدق التفاصيل راسخة فيها وفي ذات الوقت أغبطهم على قرارهم السفر إلى الغرب "أمريكا" ﻷجل العلم والدراسة والحصول على شهادة لم يتمكنوا من الحصول عليها في وطنهم اﻷم آنذاك لظروف الزمان وفوارق التقدّم العلمي بين أمريكا وغيرها من دول العالم وهم لا يحملون في جيوبهم سوى القليل من الدولارات التي هي الأخرى جمعوها بعرق الجبين أو غربة عاشوا تفاصيلها في مكان آخر، واتخذوا من العمل الجزئي معينا لهم على مصاريف حياتهم ودراستهم مع غلاء المعيشة وعبء الضرائب في أمريكا.. كل هذا كان بحد ذاته تحديا؛ فإما الوصول لهدفهم والعودة بسلاحهم الذي كلفهم الكثير أو الضياع مع ملذات الحياة اﻷمريكية بمختلف أنواعها؛ وبالتالي قد يفقدون أنفسهم لتتوارى آثارهم بعيدًا عن أحلامهم مثلما حدث وما زال يحدث لدى البعض بدلالة ما لمسته من خلال لقائي بعدد من المسؤولين والدارسين والمغتربين وقصص الكفاح والمغامرات التي رواها على مسامعي عدد من المغتربين سواء في محطات التنقل أو المحلات والجلسات الممتدة أو الممرات أو الشوارع التي تأبى أن تقف الحركة فيها..

إنّ مغامرات من عايشت تفاصيل غربتهم كالعماني حاتم الطائي والسعودي سعيد التمني على سبيل المثال تتكرر مع أغلب المغتربين وكل من لديه شغف الحياة وصنع الذات في أحضان القارة اﻷمريكية..

"تمثال الحرية" حلم آخر من أحلامي المتعالية، ولطالما كان الاسم المستعار الذي أطلقه على نفسي في مراحل حياتي العمرية العلمية والعملية هو "القلم الحر" كبرت فأيقنت أن الحرية لا تقتصر على مداد قلمي بل تتعدى ذلك ﻷعيش تفاصيلها في يومياتي ما دام في العمر بقيّة، فالصراعات السياسيّة الممتدة عبر التاريخ بين الدول وما يتخللها من إراقة للدماء والحروب كلها ﻷجل حرية الشعوب والأوطان.. فتبدأ الحرية حين ينتهي الجهل ﻷنّ منح الحرية لجاهل كمنح سلاح لمجنون فعلا.. فالحرية ليست جريمة ولا تحتاج إلى جسد عار بل تنتزع أينما تكون لنعيش بسلام.

همسة من أمريكا..

إلى حاتم الطائي وماجدة والصغيرة علا..
إلى أبي .. وأمي.. وعائلتي
إلى مدرين.. واﻷخ المغترب سعيد..
إلى الإخوة عبد الرحمن باعمر.. وحنان الكندية.. وسلطان البلوشي..
إليكم ولغيركم أحبتي أرسل شمعة من نيويورك مفعمة بحب الحياة..
ولنحرر الحرية... ونتركها تتكفل ببقيّة الأمر..

تعليق عبر الفيس بوك