كتابة في دفتر الرمل

أحمد الرحبي

العربة تسير بنا على طريق من الوهلة الأولى يبدو واضح المعالم، لكن الخديعة الكبرى للكثير ممن يتبعون العربة ويلهثون خلفها، هي أنه لا يظهر بشكل واضح هل تتجه هذه العربة التي يتبعها الجموع في العادة، للأمام أم للخلف، فهناك من يدفعون العربة للخلف دون أن يشكل الاتجاه إلى الأمام خيارًا مهماً لديهم، وهنا تكمن مشكلتنا الحضارية المعاصرة، وهي ثقة جماهير غفيرة باتباع مواكب عربات تقودهم للخلف دائماً. فعكس اتجاه البوصلة وحرف إبرتها، أفقدنا وضوح الهدف وأعتم مسيرة الطريق إليه، وأعادنا القهقري للخلف بعيدا عن الواقع وأبعد بكثير من أن نتبين منفذا ومخرجا سهلا يقودنا إلى المستقبل مباشرة، أو يعيدنا إليه كنوع من تصحيح المسار.

***

كيف يمكن تخيله هو الذي يعتبر كل يوم هاجسنا المزعج الذي يؤرقنا في نومنا وصحونا؟ كيف تخيل مقدمه والإحساس ببوادر اقترابه منّا ومعرفة أنه اختارنا في تلك اللحظة من دون الآخرين وأن الدور كان علينا في مواجهته سواء أتانا بغتة أم بمقدمات طبيعية من مرض وعجز ومعاناة في مصارعته تطول أو تقصر؟ كيف يمكن تخيل الموت نحن الذين مازلنا نعيش الحياة بوفرة من الأمل الفسيح الذي ربما يمتد بنا عشرات السنوات في عيش الحياة والتمتع بفرصتها الثمينة بكل صحة وعافية وبكل فرح وسعادة؟.

من المؤكد أن حبنا للحياة وتعلقنا بها قد ينسينا بعض الوقت هذا المنغص المهدد بانتهاء الحياة وانقضائها في لحظة خاطفة، لكن يمكن القول أيضًا إن عدم إيماننا بالحياة يجعلنا مباشرة بمواجهة نقيضها وهو الموت، فمتى ما أعطينا ظهرنا للحياة نجد في وجهنا يقف الموت متربصًا بنا، فمن الممكن القول إن الحياة هي الواحة التي في أفيائها نأمن شر الموت، وقدوم الموت هو إيذان بانتهاء الحكاية، حكايتنا السعيدة في كنف الحياة وفي أفياء هذه الواحة.

لكن لماذا الكل يعتبر الموت مرعباً إلى هذه الدرجة؟ .. لماذا لا ننظر إلى الموت على أنه نوع من الارتحال عبر الزمن والسفر الكوني، ففي فيزياء الكم مثلاً هناك افتراضية تعدد الأكوان وتماثلها بلا نهاية، فسين من الناس على سبيل المثال، قد يكون موجودا في حياتنا المعاشة وفي نفس الوقت في عدد لا يحصى من الحيوات في أكوان متعددة، في الختام في البوذية أغنية كان يرددها طيارو الكموكاز اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية تصور السحر الشيق لموضوع الموت: أموت في الضفة وأولد على الضفة الأخرى.

***

الفرحة هي شعور يصيبنا بالسعادة أو هي عدوى نسعد ونبتهج بأثرها فينا، شعور يدخلنا في غمار البهجة والاحتفاء باللحظة العابرة في الحياة.

خاصة إذا ما نظرنا إلى حقيقة الحياة التي تعتبر لحظة عابرة لا يمكن تمهلها ولا يمكن استعادتها بأثر رجعي، فلابد من الانغماس في معايشة لحظات حياتنا والاستمتاع بها إلى حد الثمالة، بالنظر إلى أن الحياة (حياتنا) هي خسران مبين دائماً أمام عامل الزمن المهدد بانقضاء هذه الحياة وتبدد لحظاتها.

***

حياتنا قصة نكتبها في دفتر الرمل، تفاصيلها معرضة دائمًا للانمحاء والزوال تمامًا كأثر زائل في الرمل المتحرك المتبعثر في كل الاتجاهات، هل تصمد قصتنا المكتوبة بحروف الرمل في حواشي الزمن؟.

فالحياة هي استراحة سعيدة في الزمن القصير المنقضي لأعمارنا، فهي كظل شجرة متاح لبرهة قصيرة من الزمن لمسافر أن يرتاح تحته من وعثاء السفر.

ولا يمكن فهم الحياة وأمر التعلق بها وحب لحظاتها وأن نُعب كأس الفرح والسعادة الذي تقدمه لنا الحياة بكرم جم حتى الثمالة، لا يمكن فهم كل ذلك بعيدا عن فكرة الانقضاء والزوال المهددة به الحياة في كل لحظة وحين.

***

في مساحة ضيقة كضيق يد سكانها تقع أكواخ تلك القرية في تقارب لصيق من بعضها. تقارب يصنع متاهة من السكك المتشعبة وسط ذلك المستطيل الضخم بمقدمة مدببة الذي تشكله القرية بمواجهة البحر وكأنها سفينة نوح في طريقها لمعانقة مياه الطوفان التي تغمر الأرض، مشكلا هذا المستطيل كيد خانتها اليابسة ولم تنقذها من الغرق في بحر واقعها الصعب، ممدودة بذل السؤال لبحر عطاياه كثيرة، هي عبارة عن أشلاء خشبية لغابات ماطرة سقوفها من صفيح مبنية على عجل في برهة وجيزة من الزمن على بساط وثير من الرمل مفتوحة الأفق على سهوب الشمس وعلى بلور البحر الأزرق، هي هذه القرية كسمكة عالقة في سنارة لا يواتيها الحظ مغموسة في بحر النفط شاهد لصيد بخس في حياة لم تجد برغم كرمها النفطي الغامر في ثمانينات القرن الماضي سوى بالنزر اليسير لفقراء يعيشون مكدة الحياة وتعبها يومًا بيوم وهم على مرمى حجر من ضفاف بحيرة النفط في الخليج الجواسي الطافح بالبذخ والنعم المهدورة في مشارق الأرض ومغاربها.

ناطور العمارة الكامن لليل بمصباح وعصي مسلحة بنصل حديدي يرابط بشكيمة وصلابة رجل الجبال على مدخلها ملتحفاً بالظلام يحرس كنزها النفطي الفاحش له ثلاث بنات وزوجتان وكوخ يقتسم السعادة فيه بقناعة مع نسائه الخمس، شجاعته وشكيمته تجعل منه حارسا لأبواب كثيرة في القرية ذات الألواح الخشبية التي تؤرجحها الريح كمركب مهتريء يقل شحنة من اللاجئين غير الشرعيين في خليج النفط يواجه مصيره في البحر المفتوح بحر الحياة، في النهار الصيفي الحار لا تكون الحياة هناك سهلة بالمرة فمع انتصاف النهار ومع توسط الشمس كبد السماء مضاف إلى ذلك الرياح الجحيمية الحارة التي تهب من اتجاه الغرب حيث سهوب الصحراء بالإضافة إلى رطوبة البحر الخانقة يغدو العيش قاسيًا في تلك الأكواخ وهي تواجه درجة حرارة تبلغ مشارف الخمسين درجة مئوية بعض الأحيان في فترة مازالت الكهرباء في المنطقة حلماً بعيد المنال في ذلك الواقع القاسي الذي يعاني منه سكان القرية لم يكن ليلهم بأفضل حالاً من نهارهم برغم الانخفاض الطفيف للحرارة عند مقدم المساء إلا أن النوم يغدو صعبا رغم ذلك بلا كهرباء قد تتيح وسيلة بسيطة كالمروحة دعك من التكييف لمكافحة الرطوبة الخانقة.

***

المدخنون دائمًا مشغولون بحرائقهم الصغيرة، حرائق متواصلة ما أن تنطفئ واحدة حتى تشتعل أخرى وهكذا دواليك يستمر حريق المتعة أشبه بنار مخيم، أو طقس عبادة بدائي للنار يمارس بتجرد وخشوع في حضرة النار.

***

ينفجر بالون بدافع الفرحة من غير أن يصاب أحد سوى بالبهجة والسرور، وفي ذات الوقت تنفجر قنبلة بدافع ديني دون أن ينجو أحد!.

تعليق عبر الفيس بوك