مَوْت واحد يكفي


د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

ما أبهج أن تصحو مُعافًى سليمًا كلَّ يوم لتمارس حياة هي بفعل الروتين اليومي والعادة لا نشعر بقيمتها؛ لأنها نعمة كبيرة غير ملموسة، إلا بالتفكُّر والتأمل؛ فقد خرجتْ الروح من الجسد ليلا وهامتْ في ملكوت الله، ثم عادتْ بقدرته -جلَّ وعلا- وكان من الممكن أن تقبض ولا تعود ولا يتحرك الجسد، إلا بحمله هناك في المجهول حيث لا عودة.

ولعلَّه لم يفكر فيلسوف إسلامي في الموت كما فكر الخيام وأقلقه هذا المجهول، فما كان منه سوى أن كثُرت تساؤلاته الفلسفية ذات الحيرة العميقة الدالة على العجز:

((لبستُ ثوب العيش لم أستشر...

وحرتُ فيه بين شتى الفكر

وسوف أنضو الثوب عني ولم...

أدرك لماذا جئت أين المقر ؟!!

أحس في نفسي دبيب الفناء...

ولم أصب في العيش إلا الشقاء

يا حسرتا إن حان حيني...

ولم يتح لفكري حل لغز القضاء

كم آلم الدهرُ فؤادا طعين...

وأسلمَ الروحَ ظعينٌ حزين

وليس ممن فاتنا عائد...

أسأله عن حالة الراحلين)).

وظلَّ الخيام مُؤرَّقا يتساءل عن هذا السر المكتنز بأسئلته، والذي لا جواب يشفّ عنه، وعندما خارت قواه ولم يصل إلى فك شفرته، اتَّخذ من الموت منبعا لفلسفته، واندفع بكثير من الألم واليأس متجاهلا له:

((غدٌ بظهر الغيب واليومُ لي...

وكم يخيبُ الظنُ في المقبلِ

ولستُ بالغافل حتى أرى...

جمال دنياي ولا أجتلي!!).

فكان أن قرَّر يعيش حياته طولا وعرضا قبل أن يأتيه هذا السر الغامض، لكنَّ تجاهل الخيام هو انغماس واهتمام مكثف بالموت وإن جاء من خلال متع الحياة:

((أفقْ خفيفَ الظلِ هذا السحر...

وهاتها صرفا وناغ الوتر

فما أطال النومُ عمرا ولا...

قصرَّ في الأعمارِ طولُ السهر

اشربْ فمثواك التراب المهيلْ...

بلا حبيبٍ مؤنسٍ أو خليلْ

وانشقْ عبيرَ العيش في فجره...

فليس يزهو الوردُ بعد الذبولْ)).

إنَّها صرخة وجودية عميقة ما زالتْ تتكرَّر كل يوم في ردهات النفس البشرية باصمة بعجز الإنسان ورعبه من العدم والفناء، ولسنا في باحة الحكم على الخيام معه أوضده، ولا نستطيع أن نسِمَه بسمة "الفسوق" لأنه تفكَّر في الوجود؛ فكلنا راودته هذا الافكار سرًّا وعلانية، وكلنا نتفق معه في جوهر المعاناة، وعدم الوصول إلى كنه هذه الحياة لقصور فينا، ولأنه كما قال لم يرجع أحد من قبره ليخبرنا عن ماهية الموت وكيفيته ولماذا وأين و..و..و..! ولسنا مع من يكفِّر الخيام أو من يدافع عنه لدرجة أن يمحو عنه تهمة كتابة الرباعيات، علما بأن تهمته هذه هي من خلدتْ اسمه لا مهنته ولا علمه الديني، كما يحب البعض أن يبرِّئه، ونعرف أن هذه الرباعيات هي ترجمة رامي، ولكن الترجمة لا تنبثق من هباء؛ إذ لابد لها من أصول تستند إليها لتترجم؛ لذا لا تحمل الرباعيات على ظهر رامي، وإن كان له كل الفخر في ترجمته الشعرية الفاتنة التي نقلت لنا كل هذا الترف الجمالي.

إذن؛ الموت هو حيرتنا الوجودية منذ الأزل، في أمر يحدث كل يوم، ودون الخضوع لقواعد واضحة؛ فلا قاعدة ولا سن ولا مبررات تجعلنا نرتاح من هذه الحيرة الكبرى، إلا أن نلوذ بخالق هو أكبر من كل تصوراتنا وأكبر من حدود عقولنا وخيالاتنا وقدراتنا، نلوذ بمسيِّر الأكوان كلها، وماذا بيدنا غير التسليم بذلك والإ لهلكنا وأهلكنا التفكير بلا طائل.

وفي هذه الأيام يكاد الموت أن يكون سيِّد المشهد الوجودي؛ فالقتل المجاني مزدهر في الشرق، والقتل العابث (الزواج المثلي/ قتل الأجنة والتخلص منهم بسن قوانين تجيز الإجهاض بحجة حقوق الانسان، التلوث الكيميائي...إلخ) مُنتشر في الغرب، وإذا كانت الحروب والأمراض، والقوى الطبيعية مفروضة علينا، ولا حيلة لنا في دفعها، فإن الغريب هو ما نفعله بأنفسنا وباختياراتنا، وكأننا أصبحنا جنودَ عزرائيل ومساعديه في القضاء على أنفسنا وعلى بعضنا البعض.

وفي وطني، يمدُّ عزرائيل أذرعته من خلال الطرق ومخارجها ومثلثاتها، كأننا عملناها لنخفف من زيادة التدفق السكاني في عدد المواليد؛ فطريق صلالة منذ إنشائه كم أخذ وكم سلب؟! والضحايا في تزايد كلما اتسعتْ شهرة صلالة كمصيف سياحي. أما الباطنة، فهي مستمرة بلا توقف في عرض مستمر طوال العام لمسرحية الموت.. الإشكالية أننا لم نتعلَّم كثيرا من أخطائنا السابقة؛ فقد استجدتْ مخارج حديثة ضمن ما يُسمَّى بالطريق السريع أو الطرق الجديدة، وحتى لا أرمى بالقول على عواهنه أضرب لكم مثالا حيًّا: يوجد أمام مسكني مباشرة مخرج من الخوير يصعد بك على طريق رئيسي يُنزلك على إشارات قبل "جراند مول مسقط"، هذا المخرج الفرعي تأتية سيارات مُسرعة ومُنفلتة من طريق صُور-العامرات، ولأنَّ الطريق هو الرئيسي لها فإنها لاتهدِّئ السرعة، ولأنَّ المخرج من عُنق الزجاجة يغري السائقين بالانفلات والسرعة، لا يقف أغلب السائقون على جانب الطريق، لحين الاطمئنان لخلو الشارع العام من سيارات مُنفلتة كالصواريخ، ولأنَّ السائق بَشَر أحيانا يسهو عليه أنه في منعطف، ولأنه لا توجد أيَّة علامات بضرورة التوقف، لا يقف أحد. والأنكى من ذلك أنه في حالة وعي السائق وتوقفه سيقف في منحنى نوعا ما، متواريًا في الرؤية عن السيارة الثانية التي ستأتي من الخلف؛ فيكون السائق بهذا تحت فكِّي الرَّحى: إما أن يصدم من سيارة قادمة من العامرات، أو أن تصدمه السيارات القادمة خلفه من نفس مخرج الخوير، إذا لم تتلقفه يد الحظ والنجاة.. لقد شاهدتُ من بلكونة المنزل عشرات الحوادث خلال فترة زمنية قصيرة، وكدتُ أذهب في يوم ما مع الذاهبين من نفس المخرج الذي أحذِّر كلَّ من أعرفه بالتريث فيه.. والسؤال: من الذي صمَّم هذا المخرج العبقري؟ سؤال آخر ممزوج برجاء: وزارة "النقل" ألم تصلك أعداد الحوادث المتزايدة من الشرطة عند هذا المخرج؟ وللإنصاف، لابد أن نتوجَّه بتحية شكر للجهة المسؤولة عن الطرق؛ لأنَّ الجسور والتفريعات والمخارج مؤخرا حلتْ كثيرا من مشكلات اختناق المرور، لكن أرجو أنْ لا نفك الاختناق بمصيبة أكبر تودي بنا إلى المقابر أو المستشفيات.

سؤال أخير: ماذا تنتظر الجهة المعنية بالطرق أن يحدث أكثر حتى تجد حلًّا لهذا المخرج؟!!! بصراحة، نحن لا نعاني من وفرة سكانية، ولم نصل كتعداد سكان إلى ظفر قدم الصين، حتى تتخلصوا منا. حفظ الله الجميع في الذهاب والإياب، وما زالت حيرتنا مُمتدَّة من زمنك إلى عصرنا يا خيام. وأرجو ألا يظل سؤالنا مُمتدا طويلا كذلك، واتركونا نواجه الأجل باطمئنان وبلا حوادث؛ فموتٌ واحدٌ يكفي جدًّا يا وزارة.

تعليق عبر الفيس بوك