الطفلة زينب وسيكولوجية الاحتفال عندنا

فيصل الحضرمي

الرصاصة التي استقرت إحدى شظاياها أسفل العين اليسرى للطفلة السعودية زينب أطلقت في لحظة فرح. أحدهم كان في عرس و كان سعيداً للغاية لدرجة التسبب بإصابة خطيرة لطفلة كانت تبعد عنه كيلومترين اثنين. لم أسمع شخصياً بوجود أية علاقة نفسية بين الشعور بالسعادة الغامرة وبين الرغبة في تعريض النفس والآخرين للخطر المجاني. ومع ذلك، وبناء على هذه الواقعة ووقائع أخرى كثيرة سبقت وستلحق، سأبالغ قليلاً بابتداع منطق رياضي ينص على أنّه "كلما زادت بهجة بعض الناس، كلما زادت الأضرار الناجمة عن تعبيرهم عن تلك البهجة"، فإذا صحت هذه المعادلة، وصادف أنك تعرف أحداً بتلك المواصفات، وصادف كذلك أنّ لك قلباً رقيقاً لا يخولك الدعاء عليه صبح مساء بألا يعرف السرور طريقاً إلى قلبه أبداً، فلا يسعك حينها إلا أن تتربص بلحظات ابتهاجه وتمنعه عندها، قدر المستطاع، من الوصول إلى أي سلاح أو غرض خطير، تماماً كما نمنع الصغار من لمس أي غرض مكتوب عليه "يحفظ بعيداً عن متناول الأطفال".

وإذا أخذنا هذه المعادلة الطردية بجدية لا تستحقها، فإنّه ربما يمكن استقراء أنّ الشخص إيّاه، رغم سعادته البالغة، إلا أنّه لم يكن في قمة السعادة، بدليل أنّه لم تنجم عن "مغامرة" احتفاله أيّة حالة وفاة ولله الحمد. ومن البديهي في هذا المقام أنّ السعداء المتوفرين على أسلحة أفضل يمتلكون حظاً أوفر في إيراد ضحاياهم المنحوسين موارد الهلاك. وبهذا المعنى فإنّ من يمتلك بندقية يدوية أقل فاعلية "احتفالية" ممن يمتلك بندقية آلية، والأخير أقل قدرة "تعبيرية" ممن يمتلك آر بي جي، وهذا الأخير لا يملك أية فرصة أمام صاحب الدبابة الذي يستطيع إحداث فجوة ذات قطر أكبر من رأس أي إنسان، تكفي لتخزين عدد لا بأس به من الأسلحة المذكورة قبلاً مع ذخائرها. ونحن في عمان محظوظون بعدم اكتمال ثنائية "السعادة-الخطر" على أتم وجه، فالأسلحة هنا متواضعة الكيف والكم مقارنة بإحدى دول الجوار التي يمتلك أبناؤها ستين مليون قطعة سلاح، أي بمعدل ثلاث قطع لكل فرد (مع التحفّظ على هذه الأرقام، نظراً إلى أنّ التجربة تعلمنا أن 99.99% من الإحصاءات العربية غير دقيقة)، ولكم أن تتخيلوا حجم الكوارث التي يمكن أن يسببها شخص مبتلى بهذه "الثنائية" في مثل هذه الظروف "المثالية".

كما أننا محظوظون لوجود قوانين نافذة تضبط حيازة واستخدام السلاح، وتجرم إطلاق النار لغير طلب النجدة في الأحياء المأهولة والطرقات العامة، غير أن المئتي ريال المحددة كغرامة قصوى على المخالف لا تبدو رادعة على الإطلاق، ويستطيع أي شخص أن يتسلى قليلاً مقابل هذا المبلغ الزهيد، ثم أنّه لا يعتبر مخالفاً للقانون إلا من قام بهذه التسلية الخطرة بدون أن يتحصل على ترخيص من الشرطة، و لا أتصور هنا أنّ أي ترخيص في الوجود يستطيع إقناع رصاصة طائشة، أو ربما موجهة، بتغيير رأيها في آخر لحظة، بينما لا يفصلها عن الضحية سوى سنتمر واحد، والتوقف فجأة عن الحركة والسقوط على الأرض أو البقاء معلقة بحسب مزاجها. ليس لأنّ الرصاصة لا عقل لها حتى تعي وتستجيب للترغيب أو الترهيب، وإنما لأنّ قانون القصور الذاتي أكثر "نفاذاً" من رغباتنا غير المعقولة، وهو قانون لا يمكن خرقه إلا في حالتين: الرسوم المتحركة، وفيلم "ماتركس".

إطلاق النار ليس الوسيلة الوحيدة الخطرة للاحتفال في المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية كالأعراس ورؤية هلال رمضان والعيدين والعيد الوطني. فهناك أيضاً الاحتفال الغريب بواسطة عرقلة المرور والتفحيط في بعض مواكب الزفات، والمسيرات الاحتفالية بالعيد الوطني أو بفوز المنتخب. وحتى نفهم الدوافع النفسية وراء هذا النمط الخطير من ثقافة الاحتفال، ينبغي الفصل بين عادة الاحتفال بإطلاق النار المتوارثة عبر الأجيال، وبين ظاهرة تعطيل حركة السير المصحوبة بعمليات التفحيط وتخريب الممتلكات في الحالات الأكثر تطرفاً.

فالممارسة الأولى يمثلها غالباً من هم فوق سن الثلاثين ومبعثها التفاخر والزهو والاعتداد بالنفس واعتبار حمل السلاح وإحداث الضجيج المدوي تجسيداً لمظاهر الرجولة والقوة، كما يمكن اعتبارها "مسرحةً" لشيء من ماضي المعارك والصدامات التي خبرها الأسلاف، بينما تقف وراء الظاهرة الثانية بواعث نفسية أخرى وليدة المجتمعات المعاصرة وتنحصر كلياً في فئة الشباب. وأقوى هذه البواعث الشعور بالانسحاق أمام جبروت التنين ثلاثي الرؤوس: سلطة الأب، وسلطة المجتمع، وسلطة الدولة، خصوصاً إذا ما ترافق هذا الشعور بالقهر مع الشعور بالغبن المترتب على الوقوع ضحية للبطالة أو "محدودية" الدخل.

فالشاب بشكل عام يختنق في الجو المشبع بالمحظورات والخطوط الحمراء، ويفتش عن أكسجين الحرية بتقليب سكين التمرد في قلب هذه الممنوعات والنواهي، ويسعى لفك الحصار على جموحه ولو بإحداث ثقب في أوزون المجتمع يستطيع النفاذ من خلاله إلى أحلامه التي لم تنضج بعد. هكذا يتحالف عنفوان الشباب والتعجّل لتحقيق الطموحات وإثبات الذات وكسب احترام المجتمع مع قلة الوعي وانعدام الخبرة وربما ضعف الوضع المادي والافتقاد للاستراتيجية المناسبة للتعامل مع "شروط اللعبة" في إقلاق راحة الآخرين والإضرار بمصالحهم بمثل هذه النشوزات. وبعد هذا التعريج السريع على البواعث النفسية للشاكلة الخطيرة التي يعبر بها البعض عن سعادتهم، وبالعودة إلى المعادلة "غير العلمية" التي أوردتها سابقاً، نكتشف أن السعادة بريئة مما اقترفته مشاعر أخرى مقنعة تتحين ساعة الاحتفال للظهور بطريقة مزعجة وغير محمودة العواقب كما حدث في حالة الصغيرة زينب التي كانت بالمقابل تحتفي بطفولتها البريئة بطريقتها المسالمة في حديقة الفندق الصغيرة.

تعليق عبر الفيس بوك