بوسطن و كيوبيد

مدرين المكتومية

madreen@alroya.info

 

 

أحببتها كما ينبغي وأحبتني أكثر مما أستحق وعلى الرغم من أنها زيارتي الأولى لبوسطن إلا أنّها استقبلتني بكل حب وشغف وكأنّها تطلب مني البقاء باستحياء شديد وخجل كعروس في ليلة زفافها وكغريب عاد بعد سنوات طوال ليحكي قصته لأب انتظره طويلا وبخجل يعود لأكنافه ليخبره أنه أخطأ حين قرر الرحيل.. وها هو يعود ليعترف بما اقترفه في حق نفسه وحق من هم حوله..
هذا هو الحال معي حين قررت أن أخرج في يوم من الأيام لأكتشف ولايات أخرى، ولايات تفصلنا عنها الكثير من المسافات ويعيش مجتمعها بفارق كبير عما نعيشه.. في ذلك الصباح الذي لم يكن عاديًا بل كان يعلن عن حياة أخرى وولادة لابتسامة وضحكة من القلب تخرج مع نسمات الهوى الباردة وتحت سماء مشحونة بغيوم الحب ومشاعر تساقطت علينا مع حبات الرذاذ الخفيفة لتعلن لنا وصولنا لولاية جميلة وعريقه تدعى "بوسطن" والتي تبعد عن نيويورك ٤ ساعات تقريبًا لم تكن بذلك الصخب إلا أنّها كانت تفوح حبًا في البناء وحبًا في قيامها كمعمار وحبا في أبنائها، وكأن إله الحب " كيوبيد" أصاب جميع سكانها بسهامه لنرى الابتسامة لا تفارق محياهم وتحيّة الحب والسلام شعارهم وهم يرددونها بسيمفونية عذبة جميلة تخرج مع كلمة "
good morning" من شفاه المارة.. بدأت أمشي مع صديقاتي الرائعات وكل ما تقدمت خطوات أجد معلما ثقافيا أو صرحا تعليميا وآخر اقتصاديًا، ومن البعيد ألمح جسورها القديمة التي ترتفع معلنة عن عبور بواخر الحب وكأنّي أعيش حقبة زمنية قديمة أصورها في مخيّلتي كشريط سينمائي قديم وكأن البلد تسرد نفسها دون شرح فبمجرد ما أتخيل التاريخ والقصص والأساطير التي عاشتها بوسطن يتبادر إلى ذهني فيلم سيد الخواتم بكل تفاصيل الحرب فيه؛ حيث وقعت مذبحة بوسطن عندما أطلق جنود بريطانيون النار على مواطنين أمريكيين وقتلوا خمسة منهم في 5 مارس 1770 وقد أدت هذه المذبحة لاندلاع الثورة الأمريكية ضد بريطانيا.. هنا وقعت الكثير من المعارك الدموية التي قادت إلى الاستقلال الأمريكي من بريطانيا حتى انسحب الجنود البريطانيين من نيو يورك في نوفمبر 1783.

 تحتضن جامعة بوسطن العالم بأكمله فهناك مزيج من البشر الذين قصدوها لطلب العلم فهي تفتح أبوابها لاستقبال الجميع كحمامة بيضاء لا تكف عن التحليق وفرد جناحيها لاحتضان السلام.
واصلت المشي حتى استمالتني رائحة جميلة قادمة من القريب لأرى لافتة كتب عليها "تشيز فاكتوري" مشهورة بالذات في صنع ألذ قطع التشيز كيك وأروع المعجنات والذي توقفت عنده كاستراحه بسيطة لأتذوق ما يقدمونه وبالصدفة بدا المكان بالنسبة لي يتغير ليكون مكانا عربيا وبنكهة أوروبية رائعة وذلك لوجود الكثير من العائلات العربية التي ترتاده.. هنا شعرت باطمئنان ومشاعر حب تزداد للمكان وكأنها تعلن لي أنها لن تكون محطه أولى وأخيرة بحياتي وإنما لو كتب لي القدر زيارة الولايات المتحدة الأمريكية في يوم ما ستكون مقصدي الأول بالتأكيد.

بين الأزقة والطرقات والممرات الهادئة الجميع يمضي إلى حيث رزقه دون الالتفات للآخر.. عالم يكرس حياته لخدمة نفسه دون تذمر ويعيش الحب مع نفسه بارضائها بفنجان قهوة ساخنة أو بوظه باردة أو بفواكه طازجة.. يعيشون الحياة بقلوب خضراء كما هي بلدهم التي كساها الله ثوب الخضرة والجمال وحباها باختلاف مواسمها بين الصيف والشتاء والربيع والخريف..
فبوسطن وطن من لا وطن له.. مكان يعيش فيها الجمال ويستوطن زواياها بكل شغف.. حين سألني أحدهم كيف وجدت بوسطن..؟ كانت إجابتي سريعة ودون أي ترد " أعلنت حبي الأبدي لها وعلاقتي بها لن تنتهي".. فمن هنا يولد الحب وهنا يموت وينتهي ومن هنا يظل كيوبيد إله الحب أسطورة أبدية لن تنتهي لأن العشق يولد في كل ثانية لهذا البلاد وسكانها وشوارعها ومعالمها القديمة التي يفوح التاريخ من بنيانها والعلم في صروحها والثقافة في عقول مستوطنيها.

الجمال والحب يستوطن بوسطن التي أسرتني حقا وشعرت بأنني أود البقاء فيها لفترة أطول ولكن علينا ألا ننسى أن هناك مفارقات كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية تختلف من ولاية لأخرى فهنا مزيج غريب وأسلوب ونمط مختلف في الحياة فمنها ما هو سريع ومنها ما هو هادئ ومنها ما هو مضطرب ومنها ما هو غريب فكل ما يمكن أن تبحث عنه من اختلافات تجدها هنا في هذا البلد الكبير ومترامي الأطراف والذي يزداد يومًا بعد يوم لوجود بشر من كل الأطياف فيه.. ولكنّه يظل في المقابل بلد التقدم والانفتاح على الآخر وهذا المزيج سبب من أسباب النجاح والانتعاش الذي تعيشه أمريكا وميّزها عن باقي دول العالم.

 

تعليق عبر الفيس بوك