وللشعر موت واحتضار وسفر

سارة البريكية

Sara_albreiki@hotmail.com

عُرف الشعر منذ عصور قديمة وحتى منذ عصر ما قبل الإسلام،بأنّه كلام يكون موزونًا ومقفى وذا معنى ومغنى ومغزى،يسرد أحداثا وقصصا ووقائع زمنية وتاريخية وسياسية وعاطفية،وعُدّبأنّهإرث وتراث،وحالات حزن وبكاء وتوهّج وجمال وخيال وتصور وعاطفة واستشهاد ومساجلات وتحاور ونقاش، وأنه أيضا مساحات بوح وألم وشقاء وراحة واستشفاء،وصار الشعر في بينونته يحمل رثاءًوهجاءًوإعجابًا وغزلا وحبا وعشقاوإطناباوولعا وولها.ووُصف في تاريخ الأمم الساحقة واللاحقة بأنّه ديوان العرب، اشتغل عليه العرب منذ بدء الخليقة، فكان سادتهم وسلاطينهم وملوكهم وأمراؤهم وشيوخهم وبسطاؤهم يقرضونه ويتسامرون به،ويقولونه ويبدعون فيه،ويعبرون به ويتحادثون من خلاله،وها هو هذا الفن الراقي والمهيب المنوع،وهذا الصنف من الكلام المجمع،يتغنى به حتى يومنا هذا كل الشعراء مع اختلاف شرائحهم وأطيافهم ومكانتهم الاجتماعية،بما هو جديده وحديثه وجيده وحسنه.

ويأتي على الشعر عندما تسكب إحدى مآقيهويودع أحد مؤثريه ومبدعيهأن يتوشح بالحزن والسواد،وان يتدثر بالألم لغة وأسلوبا، ويأتي عليه بأنّه يرثي نفسه ويبكي حاله عندما يذهب نوره،ويغيب بهاؤه،وينطفي سراجه بموت أحد أعمدته،ويأتي عليه كذلكبأنّه يلتحف الحداد، ويطوي حدوده وأسوارهوفيافيه، ويكتم في أحيان كثيرة أسراره ومعانيه وحالات ترحه التي يمر بها،ثم ليس عجبا أو غريبا أنّ الشعر يأسف لمآله عندما تزول قدم فرسانه بعدما توارى الثرى،ويهال على جسدها تراب الأرض وبقايا أشيائها،يحدث ذلك كله عند الشعر بأنواعه واختلاف مشاربه وبحوره،عندما يأفل نجومه،ويموت أهله ورجاله،ويترجل أربابه وسادته عن حياتهم إلى الموت الذي غيب حتى اليوم منهم كثيرون.

فمنذ مطلع هذا العام ألفين وخمسة عشر للميلاد غادرنا عدد كبير من الشعراء العرب الكبار،ففي مارس الماضي توفي شاعر البحرين الكبير عبدالرحمن الرفيع بعد سنوات حافلة بمنجز شعري كبير،أثرى به الساحة الشعرية في الخليج والوطن العربي، فقد كان شاعرنا عبدالرحمن الرفيع من الشعراء الشعبيين المجيدين، وهو واحد من أعمدة الشعر في المنطقة العربية، إذ عرف عن هذا الشاعر الذي هو من أهم رواد الحركة الشعرية الفكاهية في مملكة البحرين،تواضعه وروحه المرحة،ومن خلال بساطته الشعرية،وصل لقلوب الكثير من محبيه،وقال عنه البعض أننافقدنا شاعرا فكاهيافي إطلالته وشعره وحضوره، بيد أنه رحمه الله أبدع في شتى قصائده،ناهيكمعن قصائد اللغة العربية الفصحى.

بعد ذلك غيب الموت الشاعر السوداني العملاق محمد الفيتوري وهو الشاعر السوداني الجميلالبارز بين أبناء جيله وعصره،والفيتوري تغمّده الله بواسع رحمته،عُدّ من رواد الشعر الحديث،ولقب بشاعر إفريقيا والعروبة،ويعتبرجزءًا من الحركة الأدبية المعاصرة وتمّ تدريس بعض أعماله ضمن مناهج آداب اللغة العربية في مصر والسودان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

وبعد وفاة هاتين القامتين الشعريتين،فُجعت الأمة بوفاة أشهر شعراء العامية في مصر وهو الشاعر المصري العظيم عبدالرحمن الأبنودي أسكنه المولى عزوجل فسيح جناته،وكان من أشهر كتبه كتاب "أيامي الحلوة" وله عدة دواوين شعرية تتجاوز العشرين ديوانا شعريا، ولحق به بعد ذلك الشاعر السوري المرهف الحس والإنسانية والمشاعر، الشاعر الجميل حضورًا وإنسانا وإلقاءًوأسلوبًا وشعرا الشاعر عمر الفرا رحمة الله ومغفرته عليه، وكان ذلك في يونيو الماضي،أيضا من الشعراء الذي ودعناهم منذ مدة،الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني، ومنذ سنوات رحل عنا الشاعر الكبير محمود درويش، تغمّدهم الله جميعًا بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته.

إن هؤلاء الشعراء الذين باغتهم الرحيل في وقت ازدهار الأمة الشعري وانفتاحها،وفي وقت توهجهم وعطائهم،كان لرحيلهم أبلغ الأثر النفسي فينا،فهم كانوا ولا زالوا قامات شعريّة كبيرة، اختزنت الكثير من التجارب والخبرات،وجمعت بين الماضي والحاضر، واستشرفت آفاق المستقبل بكل ما مكنها من الإسهام بفعالية في تطوير الحركة الشعرية، والنهوض بها والتعاطي معها ومع قضايا الأمّة والإنسانيّةجمعاء،ولا شك أنه حينما يكون الفراق سفراأخيراإلى نهايات أبدية طويت بكل ما فيها وعليها،فإنه لا آمال ستتحقق للراحلين ليروا قيمة فقدهم والحزن عليهم، ولا رجعة لهم ولا استفاقة،ليقفوا ولو من بعيد على كيف هو الترحال كان، وكيف كانت نهاية العطاء وتوقف الأنفاس،وأن تفيض الأرواح إلى بارئها، فهذا غياب طويل وطويل وسكون.

لا أعلم كيف هو حال الأموات، ولست أعلم بحال الأحياء بقدر ما أنا على علم بحالي وحال أسرتي، ومع هذا التواري لأجسادوأناسكنا نكن لهم احتراما ومعزة لما كنا نلمسه من مكانة وتأثير لهم وهم أحياء،فإنني على يقين بقول الله "ورحمتي وسعت كل شيء" وإذا كانت رحمة الله بعباده الأحياء كبيرة وأعظم، فإنّرحمته بعباده الأموات أكبر، كما جاء ذلك في السير".

تعلموا لسنا بعيدين عن الموت أبدا،فمن غادرنا هو سابق ونحن لاحقون لا محالة سواء اليوم أو غدا، وما موت أخينا الشاعر حمد الخروصي منذ أيام في سويسرا وهو في قمة حضوره ونشاطه وتألقه وعطائه الشعري والشخصي،إلا صدمة كبيرة للساحة الشعرية العمانية والخليجية،وموته فجأة وهو في ريعان شبابهألم مفجع لنا ولأهله وشيء كبير لمن عرفه أو سمع عنه أو قرأ له،لقد تألمنا لموت هذا الأخ الشاعر مثلما تألمتأسرته وأهله وذويه، وهكذا هو صاحب الأحاسيس والمشاعر والنفوس الطيبة النقية،يتألمدائمًا عند موت من يعرفه ومن لا يعرفه،فالآدميمكرم وغال وعزيز عند الله تعالى،ونتذكر قول الله عزوجل للملائكة حينما قال لها " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر.

إن من يفارقنا وهو جميل في أخلاقه وتعامله واحترامه للآخرين،طبيعي سنتحسر على موته وفقده، والشاعرحمد الخروصي كان شاعرًاخلوقًاشهدت له الساحة الشعرية لدينا في عمان، وفي الخليج عامة بذلك،وكان رحمه الله وتغمّده بواسع رحمته،يتميّز بأسلوب شعري لافت صرف الأذهان إليه، فالله أسأل أن يتغمده بفيض رحمته وأن يسكنه فسيح جنانه،ولأهلهوعموم عائلته مني خالص التعازي وصادق المواساة.

ثمّة بوح خفي وهو يا الله نسالك حسن الخاتمة، وثمة همسة من القلوب وهي أن يبقى الوطن بقائده وسلطانه وشعبه،وطنا جميلا أبيا،يتعاقب عليه المميزونفي مختلف المجالات، وللشعر عزاء في فقد رجاله، وللشعر بقاء برجاله وأقلامه وكتابه ومحبيه ورواده وأهله، وإنا لله وإنا إليه راجعون ونم يا "حمد" أيّها الشاعر الذي نعاك وبكاك الشعر، نم في جنات الخلد هانئا منعمًا مع النبيين والصديقيين،ولله ما أعطى وما أخذ.

تعليق عبر الفيس بوك