ثورة الخبز.. والكهرباء.. والكرامة

فؤاد أبو حجلة

بمئات الألوف خرج العراقيون إلى الشوارع في أكثر من نصف محافظات البلاد ليعترضوا على الفساد والمحاصصة ويطالبوا بحقوقهم الأساسية في الخدمات المعدومة في المدن والأرياف. بدت المظاهرات في البداية وكأنها هبة محدودة لا تلبث أن تخفت وتصمت في غمرة التحشيد الطائفي المجنون والمواجهات الغبية بين المتطرفين الأصوليين في المعسكرين السني والشيعي. لكن تبين أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة، وتأكد أن لهذا الحراك زخم شعبي يتجاوز حدود الطوائف الضيقة ويمتد في طول وعرض العراق الكبير. وبدا جليا أن الحصول على الكهرباء في هذا الحر القائظ يتقدم على الولاء للطائفة، وأن توفر الخبز أهم من رضا المرجعية، وأن الحصول على الدواء أهم من بركات الشيوخ. إنها انتفاضة حقيقية ضد الفساد في حكم المحاصصة الطائفية، وضد النموذج الأمريكي للعراق "الحر"، وضد الطفيليات الطائفية التي تمتص دماء العراقيين، وتبيع نفطهم وأرضهم وأرواحهم لأمريكا وايران. لذلك كان لا بد للمرجعية أن تتدخل لتنفيس الثورة، وأن توجه رئيس الحكومة لاتخاذ إجراءات إصلاحية رأى البعض أن غير مسبوقة في جرأتها وشجاعتها، لكنها في الواقع إجراءات سياسية تهدف بالدرجة الأولى إلى حسم الخصومة مع منافسي رئيس الوزراء حيدر العبادي وعلى رأسهم نائب الرئيس الحالي نوري المالكي الذي قاد العراق إلى الكارثة خلال رئاسته للحكومة، وتحول من أداة طيعة في يد المرجعية إلى عبء سياسي ثقيل عليها بعد أن تجاوز كل الخطوط الحمر في طائفيته البغيضة وفي تجاوزه على حقوق العراقيين وكرامتهم من خلال زعامته للائتلاف الحاكم في عهده والذي كان يسمى "ائتلاف دولة القانون"! وبغض النظر عن دوافع قرارات العبادي فإن هذه القرارات كانت ضرورية لتخفيف حدة الغضب والاحتقان الشعبي، وخاصة فيما يتعلق بنواب الرئيس الذين يتقاضون رواتب خيالية ويكلفون خزينة الدولة مبالغ أكبر في الانفاق على حراساتهم وعلى مصاريفهم النثرية بينما يعاني ملايين العراقيين من ندرة الغذاء والدواء. كما جاء التوجه المعلن لمحاسبة المسؤولين عن أزمة الكهرباء منطقيا في بلد يحتوى على رابع أكبر احتياطي من النفط وعاشر أكبر احتياطي من الغاز في العالم، ويعاني أهله من انقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات الليل والنهار. ومثلما خرب الطائفيون السنة ثورات الربيع في تونس ومصر وسوريا وليبيا، بادر الطائفيون الشيعة إلى تخريب ثورة الجياع في العراق ودخلت مجموعات من "عصائب أهل الحق" في الحراك الشعبي في محاولة لتجييره لصالح المرجعية، لكن هذا الحراك يحتفظ حتى اللحظة بطهرانيته ونقائه ورفضه للطائفية وتجلياتها البغيضة، ويبدو أنه قادر على الحفاظ على صواب توجهه رغم محاولات الاختراق. ومثلما حاول الرئيس المصري الاسبق أنور السادات الانتقاص من الحراك الشعبي في مصر واعتبر ثورة 1977 "انتفاضة حرامية" تحاول ايران الانتقاص من الحراك الشعبي في العراق ويعلن قادتها أن "جهات غير مسلمة" تقف وراء هذا الحراك، وهو وصف مثير للسخرية إذا ما عرفنا أن معظم المسيحيين في العراق هاجروا إلى أوروبا وأمريكا وكندا، كما أن اليهود لم يعد لهم وجود في بلاد الرافدين منذ عهد نبوخذ نصر، وفي حدود علمنا أيضا أنه لا وجود للبوذيين أو الهندوس أو السيخ في العراق.

وإذا جاز لنا تفسير التصريحات الايرانية فإننا نفهم منها أن السنة والشيعة ليسوا مسلمين، وهذا في حدود فهمنا المتواضع يتناقض كثيرا مع صراع الطائفيين في المعسكرين على احتكار الاسلام وتكفير الخارج عن الطائفة. باختصار، نرى الحراك العراقي مقدمة لثورة شعبية عارمة تحرق كل يباس مرحلة ما بعد الاحتلال، وتعيد إلى العراق اخضراره.. وعروبته.

تعليق عبر الفيس بوك