"ﻻ تزن يا حلاو، شهوة وانطفت"



عائشة البلوشية

يقال إنّ جائعًا كان يتجوّل بين شوارع الحارة المظللة بوارف النخل، وظلال الأمبا واللومي والسفرجل، حتى دخل السوق ونداء بطنه يتعالى، فدخل محلا لبيع الحلوى العمانية، ذات الرائحة التي ﻻ تخطئها الأنوف، فسأله عن سعر الحلوى السوداء، بكم المن؟ فرد عليه بكذا، فقال له أعطني قطعة ﻷتذوقها، فأعطاه قطعة، التهمها بتلذذ مستتر، فسأله الحلاو: كم منا تريد؟، فقال للحلاو: ﻻ ﻻ أعطني قطعة ﻷجرب الحلوى الصفراء وأتذوقها، وفعل فأكلها مستمتعًا بنكهة الزعفران فيها، وسأله بكم المن؟ فأجابه بكذا، كم منا تريد؟ فقال مجددا: ﻻ ﻻ أعطني ﻷتذوق الحلوى السوداء مجددًا ﻷقرر أيّها الأنسب، فأعطاه قطعة أخرى أكبر حجمًا من سابقاتها، فكانت هي المشبعة بالنسبة له، فسأله الحلاو: هاه من أي الحلوى أزن لك؟ فكان الرد الشهير: "ﻻ تزن ياحلاو شهوة وانطفت"، أي أنّه كان جائعا فاشتهى الحلوى وهو يمر أمام المحل، ولكنّه بعد أن ذاق منها ما أراد انطفأت نار جوعه واكتفى...
والحلوى العمانية هي ذلك المزيج السحري الفريد من السمن والعسل والنشاء وماء الورد العماني والهيل والزعفران الزين، يخلط بأناة وصبر في وعاء عميق من الصفر (النحاس) على نار حطب السمر، بحيث تضاف تلك المحتويات الواحدة تلو الأخرى، ويستمر الحلاو(صانع الحلوى) في تحريك المزيج حتى يتجانس وينكمر، ليعطينا تلك الحلوى اللذيذة، وكانت تغليفة الحلوى في الماضي هي أعظم هدية تفرح بها قلوب الأطفال قبل الكبار، حيث توضع قطعة الحلوى في كيس صغير مصنوع من الخوص (سعف النخيل)،
وهذا هو حال البشر يظلون يتطلعون إلى شيء ما، وما أن يصلوا إليه حتى تنطفئ زهوته ويذهب بريقه ولذته، وفي بعض الأحيان تعقب الوصول حسرة وندم ﻷنه ربما يكون قد وقع في المحظور، ولكن يمكن أن ينطبق هذا على الحاجات الأساسية للجسد، أمّا حاجات الروح فلا شبع منها وﻻ ارتواء وﻻ ندم، ﻷنّ جذوة الشوق تظل باقية ببقاء الروح، ولعلّ أبرز الأمثلة على الإطلاق هي الحاجة للعلم، فمن يصل إلى مرحلة التلذذ بالعلم والعلوم يجد نفسه تتوق للمزيد والأكثر، ولكن لكل روح مآربها، فهناك من يطلب العلم للدنيا، وهناك من يطلبه للدين، وهناك من يطلبه للإثنين معا...
وﻻيمكن للإنسان التواق للعلم أن يصل إلى مرحلة الشبع أو التأفف، فبحر العلم واسع، عميقة أغواره، ومتعددة طبقاته، لذلك جعل الله تعالى مكانة خاصة للعلماء (إنما يخشى الله من عباده العلماء) 28 سورة فاطر، ﻷنّهم يصلون إلى مرحلة من العلم توصلهم إلى أعلى درجات الخشية منه جل في علاه، ولكن الحقيقة الواضحة والجلية في محكم آيات القرآن أننا ومهما حققنا من المؤهلات تظل معلوماتنا قليلة (وما أوتيتم من العلم إﻻ قليلا) 85 سورة الإسراء، وهذا لا ينصب في قالب المثبطات لنا، بل إنّ تكريم المولى عزّ وجل لأبو البشر سيدنا آدم بأن علمه الأسماء كلها دونا عن الملائكة والجن، يعد دافعًا قويا لنا لنلهث في طلب العلوم، كل في مجال عشقه وتعطشه، لكي نصل إلى حقيقة الخشية من الله والتلذذ بها، لذا يجب على كل منا أن يقف أمام مرجل العلم الذي يحب وينادي على الحلاو قائلا زن يا حلاو قدر استطاعتك ﻷنّ شهوة العلم ﻻ تنطفئ جذوتها؛ وﻷنّ العلم لم يقتصر على سن محددة، أو مؤسسة بعينها، بل هو من "المهد إلى اللحد... "

توقيع: "إني ببابك قد بسطت يدي. "



تعليق عبر الفيس بوك