الأمن الثقافي والسياحي: البداية من الإنسان

د. سيف بن ناصر المعمري

saifn@squ.edu.om

أكتب هذا المقال من مطار جدة الدولي خلال رحلة عودتي من المشاركة في ملتقى "أمن وسلامة الآثار والمنشآت السياحية" الذي نظمته جامعة نايف للعلوم الأمنية بالتعاون مع منظمة السياحة العربية وأمارة الطائف، خلال الفترة من 4-6 أغسطس 2015م، حيث قدمت آخر ورقة من أوراق الملتقى بعنوان" الآثار والسياحة في سلطنة عمان: الواقع والحماية"، ولا أخفي القراء الأعزاء أهمية هذا الملتقى الذي أعتبره بمثابة الحجر الذي آمل -وكثير من الخبراء الأمنيين أو المختصين والباحثين في مجالات الهوية والتراث والسياحة- أن يُحرك المياه الراكدة في موضوع الحفاظ على التراث المتنوع والغني الذي تزخر به جميع الأقطار العربية، وليس غريباً أن يكون تنظيم هذا الملتقى من قبل جامعة لها الريادة في طرق كثير من القضايا الاستراتيجية ذات الأبعاد والآثار الأمنية على المنطقة، والتي تناقشها في ما لا يقل عن أربعة عشر مؤتمرا وملتقى تنظمها سنوياً، وأكاد أزعم- أنها الجامعة العربية الوحيدة الناشطة في هذا المجال كماً وكيفاً، وخير دليل على ذلك الكتب التي عرضتها الجامعة على هامش الملتقى والتي لم تدع قضية إلا نشرت فيها دراسة أو كتابا، ولا يستغرب أن يتدفق الإنتاج العلمي والبحثي من هذه الجامعة بهذه الغزارة طالما أن رئيسها هو معالي الدكتور جمعان رشيد بن رقوش فهورجل يجب أن تفخر به المملكة العربية السعودية وهوالذي حادثني قبل مغادرتي الطائف مطمئناًوشاكراً للمشاركة في هذا الملتقى، وطالما أن بها نخبة من الباحثين السعوديين الذين التقيت بعضهم في مؤتمرات إقليمية، وكانت طروحاتهم لا تفتح الباب إلا على رؤى تحليلية تقود إلى فهم عميق للقضايا المطروحة.

إنّ هذا الملتقى ناقش أمن وسلامة موضوع وصفته بأنّه أكبر من أن نستطيع أن نقدم له الحماية، أو أن نحافظ عليه في ظل ضعف قدرة العديد من البلاد العربية على حماية الإنسان من الفقر والجهل والإرهاب هذا الثلاثي الذي قاد إلى كل هذه الفوضى التي تعاني منها الأقطار العربية، ولكن لا تزال هناك فسحة أمل، ولا يزال هناك ضوء في آخر النفق علينا أن نتبعه إن أردنا أن نحافظ على وجودنا وهويتنا التي تميزنا عن بقية شعوب العالم، فلا شيء يجعلنا أقوياء إلا التمسك بها والاعتزاز بكل تفاصيلها، هي الملاذ الأخير، الذي يجب ألا نفرط فيه في زمن "التفريط العربي" في كل شيء، فعندما نخسر هذه الهوية وهذا التراث المتنوع والذي يتوزع في كل بلد عربي كما تتوزع الأوردة في جسم الإنسان، يغذي كل بلد بالروح التي تحاول التنمية المعاصرة -التي سمحنا لها بإرادتنا أن تتطاول على هويتنا وسماتنا الحضارية-أن تقتلها، فصرنا كدول ومجتمعات مثل المتأرجح على حبل يتأرجح غير قادر على الثباتوالتوزان في عالم توازنت معظم دوله بالحفاظ على تراثها وهويتها.

لقد لفت نظري في كل ما قدم من أوراق في الملتقى أننا لا نزال نؤمن بالمقاربات الأمنية والقانونية في التعامل ليس فقط مع أمن وسلامة الآثار والمنشآت السياحية فقط ولكن في قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسيةكثيرة، ولا نزال ننظر إلى مفهوم الأمن وفق مفهوم ضيق من حيث أهدافه وآلياته، ولا نزال نرى أنّ مجرد وضع قانون سيضع كل شيء في الطريق القويم، ولا قانون نجح في وضع الأشياء في طرقها القويمة في بلداننا العربية، لأن القانون لا ينظر إليه على أنه مسطرة لا يمكن أن نحصل على قياسات دقيقة وفقها إن تغافلنا عن رقم أو كسر فيها، إنما ينظر إليه على أنه سلم ما يلتزم به أصحاب الدرجة الأولى يلتزم ببعضه أصحاب الدرجة الثانية، وهكذا يتراجع ما يلتزم به كلما صعدنا بقية درجات السلم، وبالتالي قد يكون من الصعب المحافظة على التراث المادي وغير المادي في ظل هذا الواقع، لأن هناك من لا يعنيه هدم بيت أثري في سبيل بناء عمارة أو إقامة مصنع، وهناك من لا يعنيه تهدم قرى أثرية، أو فقدان مخطوطات لأنه لا يرى أي عائد يبرر دفع عشرات الآلاف من الريالات أو الدراهم أو الجنيهات في سبيل الحفاظ عليها، وهناك من يرى الحفاظ على هذه المواقع عبث لا يتفق والدين، فمن أين يمكن أن نبدأ الحماية في ظل كل هذه المعتقدات؟.

لقد أتاح لي تقديم آخر ورقة من أوراق الملتقى فرصة كبيرة، للتعرف على المقاربات التي اتجه إليها الباحثون المشاركون في الملتقى في التعاطي مع موضوع بهذه الأهمية، والتي كانت مقاربتين لا ثالث لهما، هما المقاربة التراثية التاريخية، والمقاربة القانونية الأمنية، وبالتالي ربما غابت مقاربات أخرى، ومع إدراكي أن ملتقى مثل هذا لا يهدف إلى تقديم إجابات سريعة بقدر ما يهدف إلى إثارة مزيد من الأسئلة من أجل المضي في مزيد من الدراسة والتقصي، ولذا طرحت ثلاثة أسئلة أرى أنها تستحق التفكير، وهي: لماذا الحديث عن أمن وسلامة الآثار والمنشآت السياحية اليوم؟ هل يمكن أن يتحقق أمن هذه الآثار والمنشآت بتحقق بالمقاربة القانونية فقط؟ من المسؤول عن تحقيق هذا الأمن؟.

لا شك أنّه رغم كل الوهن والضغوطات التي يعاني منها الإنسان العربي، ورغم حالة التوهان التي يعيش فيها منذ زمن؛ والتي جعلته لا يلتفت كثيرا إلى هويته وقيمتها، بقدر ما جعلته يلتفت إلى كيفية الحصول إلى لقمة العيش إن كان معسراً أو إلى أسعار الأسهم والعقارات إن كان ميسراً-إلا أننيأؤمن بالمقاربة الإنسانية، فالأمن الذي ننشد يبدأ وينتهي بالإنسان، فلا يمكن حماية أي موقع تراثي أو عنصر من عناصر الممتلكات الثقافية إذا لم يعتز هذا الإنسان أولاً بكل هذا، فاعتزازه هو الآلية الأولى لتأمين هذه المواقع، وإذا لم يجسد هذه الهوية ويراعيها في كل شؤونه وتصرفاته إن كان فرداً، أو في كل مشاريعه إن كان حكومة أو مؤسسة، إن أخطر ما يهدد هذه الآثار والمنشآت اليوم الأفراد والحكومات بإهمالهم، وإدارتهم ظهورهم لها، وأنا على يقين بأن التفاتة جامعة نايف تمثل بداية طريق طويل لبث الأمن والحياة في هذه المنشآت والمواقع، وهو مشروع استراتيجي لابد أن تواصل الجامعة دعمه من خلال تنظيم ملتقيات أخرى لتداول التجارب، والخبرات، وتوسيع المقاربات.

تعليق عبر الفيس بوك