عهود الأشخرية
ثمّة مهمة أساسية للكاتب ألا وهي الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة.. الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد تعرّف الكاتب على أنّه كائن فضولي في كل شيء، فأي تعريف يمكن أن يكون دقيقًا مثل هذا؟ قضيت هذه الفترة وأنا أراقب أشياء لم أكن أعيرها أي اهتمام على الإطلاق، وفكرت في مقال قديم لبثينة العيسى كانت تفصّل فيه مسألة مهمة عن الالتفات للأشياء المهملة، وتنوه على أننا لو رأينا حجرًا في مكان ما لما التفتنا له، فماذا لو كان هذا الحجر في مكان فاخر على وسائد فاخرة وتسلط عليه إضاءة من زوايا مناسبة؛ هنا سنهتم كثيرًا بهذا الحجر ونحارب لأجل أن نراه ونتأمل في تكوينه. ما وراء مقال بثينى العيسى أن علينا الاهتمام بكل التفاصيل مهما كان ظاهرها فبالطبع هي تحمل بعدًا آخر، وله مكنوناته الخاصة.
لو جئنا نتحدث عن ذلك، فقد صادفت كتابًا يهتم بفكرة التفاصيل الصغيرة والدقيقة، كتاب (طعام، صلاة، حب) للكاتبة إليزابيث جيلبرت المعنون اسمه بـ "امرأة تبحث عن كل شيء"، بالرغم من أنني أتعمد الهرب من فخ الكتب الأكثر مبيعًا حيث وُضِعت ملاحظة في غلاف الكتاب بأنّ هذه الرواية بيع منها أكثر من 4 ملايين نسخة حول العالم وتحوّلت إلى فيلم سينمائي من بطولة جوليا روبرتس؛ إلا أنّه في الحقيقة انجذبت إلى هذا الكتاب بداية من عنوانه (طعام، صلاة، حب)، وفكرت بإمكانية أن تكون هذه الثلاث كلمات مجرد رموز لأشياء أخرى، أعني بذلك أنّ الطعام ربما لا يعني فقط هذا المصطلح إنما يمتد لحاجات الإنسان الأخرى في ذات النطاق سواء أكان ماديا أو معنويا، والصلاة قد تكون السكينة والاستقرار والسفر في الروح وفي دواخل الذات وإلى ما ذلك، وأخيرًا الحب له معان كثيرة جدا.
الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب ينتمي لكتب السيرة الشخصية أو السيرة الذاتية، فالكاتبة فيه تروي أحداث حياتها التي سعت إليها والتي غيّرت جزءًا منها وأيضًا تلك التي كانت نقطة تحول لكل شيء في حياتها، فالسيرة الذاتيّة بشكل عام هي صنف أدبي قد يغوص الكاتب فيه خيالاته الكثيرة حيث صرحت الكاتبة أنّها غيرت بعض الأسماء والأحداث في مقدمة الكتاب لكن يبقى لها قدر كبير في الواقعيّة في مراحله وهذا هو الأهم، فلا يمكن أن تكتب أحداثا لم تعشها أو تمر بها في مرحلة من المراحل، وفي الحقيقة أنّ مهمة أدب السيرة الذاتية لا تكمن في انتصار خيالات الكاتب على واقعه، بل الأهم من كل ذلك التأثر بالطابع المكاني والزماني للقصة التي يعيشها، والانتقال العبقري بين أماكن عديدة وأزمان عديدة إذا كان ذلك من متطلبات هذه القصة، إذن فالسيرة الذاتية ما هي إلا توثيق للحيّز المكاني والزماني، لذلك لهذا الصنف من الأدب خصوصية بهذه السمة التي تميزها وليست فقط أحداثا مجردة من القوالب. لذا يمكننا أن نعرف السيرة الذاتية بأنّها أحداث استعادية نثرية سمتها التسلسل الزماني والتصور المكاني، يقوم به شخص واقعي له عالمه الخاص الذي يقولبه أخيرًا في شكل كتابي سواء أكان بشكل بوح مباشر أو غير مباشر. وهذا ما نجده في هذا الكتاب الذي يعتبر صادمًا بكميّة الأحداث التي تشكل شخصيّة حقيقية في نهاية الأمر.
لو عدنا إلى المرأة التي تبحث عن كل شيء (إليزابيث جيلبرت)، فما هي الأشياء التي أرادتها امرأة تبدو حياتها مثالية كما يتضح للآخرين؟ حيث إنّها تسكن في منزل فاخر مع زوج محب يريد أن ينشئ عائلة! كيف استطاعت حقًا اتخاذ قرار يهدم حياتها كلها لأنّها لا تشعر بالرضا في داخلها، لكن هذه الحياة التي تبدو كاملة لا تناسبها في الحقيقة، واتخذت قرارات قد يتم اتهام امرأة في مجتمعاتنا إن اتخذت قرارات مماثلة بأنّها تخرق نواميس الكون؛ مثل قرار عدم رغبتها في الإنجاب أولا ثمّ قرار الطلاق الذي لم يتوقّعه زوجها المحب وقد اتهمها بأنّها أفسدت كل شيء، بالنسبة لها لا الزوج ولا الثروة ما كانت تحلم به، إنّما كانت تريد أن تكون امرأة حرّة، دون قيود ولا ارتباطات، لا شيء يمنعها من السفر أو التجول في كل ركن من العالم، فمضت تبحث عن ذاتها في 3 محطات بين إيطاليا والهند وإندونيسيا تقضيها في تعلم لغة جديدة أو تذوق وجبة جديدة، كانت أشياء بسيطة تسعدها لأنّها تستطيع الإحساس بكل تفاصيل هذه اللحظات. فقد قسّمت هذه المحطات بأنّها وجدت الطعام في إيطاليا وقد فسرت ذلك بأنّ هنالك أشياء صغيرة جدًا تبني روحها ومن ذلك سعيها إلى تعلّم اللغة الإيطالية، والصلاة في الهند حتى تجد التوازن الداخلي من خلال النصيحة التي قُدمت إليها بأن تنظر من خلال القلب لا من الرأس حتى تجد الله، وأخيرا الحب في إندونيسيا حيث السلام الداخلي الذي يمكن أن يشعر به المرء. ورغم حنين (إليزابيث جيلبرت) لأشياء كثيرة إلا أنّها في النهاية وجدت كل شيء كانت تبحث عنه في السلام التي طُبع في أعماقها حتى مع فقدانها أشياء ثمينة. في النهاية ليس لنا حق في تقييم السيرة الذاتية لكنني أقول إنّ التفاصيل بإمكانها أن توسّع خيالاتنا وإدراكنا أو يمكن أن ترمي بنا في شباك الملل والرتابة.
