باولا

ناصر محمد

للكتابة طقوسها المقدسة، ومن أهم هذه الطقوس أن يكون صاحبها على مسافة ليست بالبعيدة عن الانفعالات التي يرصدها ويشكلها بوساطة الكلمات، فهذا البعد ضروري لكي يستطيع الكاتب أن يرى الأحداث من زاوية آمنة من تشوهات الذات. لكن أن تكتب عن الحدث وأنت في الحدث نفسه لهو مجازفة لا يتقنها إلا الكبار، وهذا ما فعلته الروائية التشيلية "إيزابيل الليندي" عندما كتبت ذكرياتها الخصوصية عام 1991م وهي تمضي الأيام والليالي والشهور مع ابنتها المريضة "باولا" التي توفيت بعد صراع مرير مع المرض، كتبتها خلال ساعات لا حصر لها أمضتها في ممرات المستشفى في مدريد وفي غرفة بفندق عاشت فيها شهورا، وكذلك إلى جانب سرير ابنتها في بيتها بكاليفورنيا عام 1992م.

تذكر الكاتبة في بداية كتابها "باولا" عن سبب شروعها بهذا العمل، فهي تحاول أن تعيد سرد شريط ذكريات العائلة رغبة منها أن تساعد بذلك ذاكرة ابنتها باولا التي سقطت في غيبوبة طويلة بسبب إصابتها بمرض غامض، وتعقّب إيزابيل بعد ذلك عن فائدة الكتابة خاصة بعد صدور روايتها الأولى "بيت الأرواح" عام 1973م قائلة: لقد أنقذ ذلك الكتاب حياتي. فالكتابة هي تفحص طويل لأعماق النفس، رحلة إلى أشد كهوف الوعي عتمة، وتأمل بطيء. إنني أكتب متلمسة في الصمت، وأكتشف في أثناء الطريق أجزاء من الحقيقة، نتفاً صغيرة من الزجاج تتسع لها راحة اليد، وتبرر مروري في هذه الدنيا. وتضيف الليندي أيضًا: إنني أتقلب في هذه الصفحات في محاولة لاعقلانية للتغلب على رعبي، ويخطر لي أنني إذا ما أعطيت شكلا لهذا الخراب فسوف أتمكن من مساعدتك ومساعدة نفسي، وأن ممارسة الكتابة التفصيلية يمكن لها أن تكون خلاصنا. لقد كتبت قبل إحدى عشر سنة رسالة إلى جدي أودعه وهو يموت، وفي الثامن من كانون الثاني 1992م، أكتب إليك يا باولا لكي أعيدك إلى الحياة.

الكتاب يمكن أن يصنف كسيرة ذاتية، فالكاتبة تستدعي ذكرياتها وتستحضر أهم الأحداث والوقائع التي مرّت بها في حياتها المليئة بالانعطافات والتحولات العنيفة، سواء على صعيد حياتها الشخصي في طفولتها وعلى الصعيد السياسي وذلك في الانقلاب العسكري عام 1973م الذي نفذه العسكر واليمينيون ضد عمها اليساري المنتخب ديموقراطيا "سلفادور الليندي" والذي انتهى بقتل الرئيس الليندي بتراجيديا مؤثرة جدا وحكم العسكر لتشيلي مدة سبعة عشر عاما.

تتكلم إيزابيل في كتابها عن أصول أسرتها الباسكية منذ بداية القرن العشرين وتأثير جدها وجدتها الكبير على حياتها وخاصة في توفير تلك الثيمات القيمة لثلاثيتها الروائية: بيت الأرواح، ابنة الحظ، صورة عتيقة. حتى أن الكاتبة خصصت لجدتها الشخصية الرئيسية في روايتها بيت الأرواح وهي شخصية " كلارا". بعد ذلك تنتقل الليندي إلى قذفها العبثي للوجود من قبل أب لم تكنّ له يوما أية مشاعر بسبب تركه للعائلة أمام مصير بائس، ولا تحتفظ له سوى كنيته التي سيكون لها تأثير كبير في الانقلاب العسكري. وتتطرق الليندي بعد ذلك إلى والدها البديل "رامون"، الدبلوماسي الرصين الذي دخل في حياة العائلة بعد هروب والدها توماس الليندي، وقد حكت إيزابيل عن صعوبة تقبله في البداية والذي استمر لعدة سنوات حتى اكتشافها أن عمها شخصية مثالية في تفانيه وإيثاره من أجل العائلة. وبسبب دخول رامون إلى مسرح الأحداث فإن ايزابيل ستنتقل إلى عدة عواصم في العالم بسبب مهنة عمها مما ستصقل شخصيتها وتجربتها في الحياة، وتذكر تأثير المدرسة الانكليزية عليها في جانب ترويض طباعها كما ان هذه الحياة أتاحت لها تعلم عدة لغات منها الانجليزية والفرنسية.

تتوغل ايزابيل في ذكرياتها الأكثر عتمة لتذكر بعض خصوصياتها الحميمية لبعض تجاربها مع عالم الجنس أثناء إلحاح غرائزها عليها في فترة مراهقتها، وكذلك تعلمها الرقص بمساعدة عمها للدخول إلى عالم الشباب، لتتوج إحدى هذه الرقصات بجذب زوجها المستقبلي من أصول انجليزية "ميشيل" إلى قلبها، وليبدأ مشوار حياتها العائلي بإنجاب ثلاثة أبناء أحدهم "باولا" التي تسرد هذه السيرة لأجلها.

تتكلم ايزابيل بعد ذلك عن المهن التي مرت بها، وخاصة الصحافة. وتنقلها بين البرامج الاذاعية والتلفزيونية والمسرح والترجمة الأدبية، وتعيد إلى ذاكرتها دائما نضالها من أجل حقوق المرأة التشيلية وتعاطفها مع الهيبيين، حتى أنها وجدت نفسها علكة تلوكها ألسن المواطنين التشيليين بسبب ظهورها في إحدى الإعلانات التلفزيونية بمظهر غير محتشم برأيهم. كما أنها أفردت للشاعر التشيلي الكبير "بابلو نيرودا" جزءا قيما من سيرتها إذ دعاها يوما إلى بيته الذي يقع في منطقة شاطئية خلابة، ودار بينهما حوار أقنعها نيرودا فيه أن تهتم بكتابة الرواية إذ تستطيع أن تحول بها نقائص الصحافة لديها إلى فضائل حقيقية في عالم السرد السحري.

تتوقف إيزابيل طويلا بعد ذلك عند محطة تعتبر من أسوأ المحطات مأساوية في حياتها، وذلك حين تستحضر من ذاكرتها تلك الأحداث المشؤومة التي مرت بها تشيلي عام 1973م، فالديموقراطية قد تم التضحية بها في سبيل مصلحة طغمة عسكرية استغلت حقد المحافظين على الشيوعية التي كان سلفادور الليندي رئيسا لحزبها فقامت بشن دعايات ضدها وتحريض الرأسماليين وأصحاب المشاريع على الرئيس، وكانت النهاية أن تمردت القوات المسلحة على الرئيس وانتهت بنهاية مؤسفة عندما تم محاصرة قصره فقتل نفسه لكي يؤكد على أنه الرئيس الشرعي للدولة. تسرد إيزابيل الأحداث التي حصلت بعد ذلك وارتباطها شخصيا بها لأنها كانت هدفا للدكتاتورية باعتبارها ابنة أخ الرئيس، وتشير الليندي إلى تحول المجتمع إلى حالة هيستيرية انفجر الشر منهم انفجارا هائلا لدرجة التشكيك الكامل بوجود الخير!

وللحب مكانه الخاص عند إيزابيل في سيرتها، فهي دائما ما تقول أن الحب يأتي لأفراد أسرتها مثل هبة عاصفة. فإيزابيل مرت بعدة عواصف حب منذ زوجها ميشيل الذي انتهى بطلاقها منه بسبب ذبول المشاعر بينهما لاحقا، وكذلك سقوطها في علاقة حب أخرى مع الاميركي "ويللي" الذي سلمت قلبها له بعد أن ظنت أنه محمي من الحب بعد تجربتها الأولى، وسيستمر ويللي معها إلى أن تموت باولا.

تختتم إيزابيل سيرتها بوفاة باولا بعد اتخاذ القرار الصعب بتخفيف الآلام عنها بعد اليأس من نجاتها، وتقول في النهاية: وداعا يا باولا المرأة، أهلا يا باولا الروح.

تعليق عبر الفيس بوك