د. صالح الفهدي

مَن يحصر الصفة "الداعشية" في تلك الشرذمة الشاذة التي تستبيح دماء الناس، وتدمِّر أرض الله، وتحرق الأخضر قبل اليابس، وتأتي بكل أمر شنيع باسم الدين، فقد أخطأ في حسبانه..! فالدواعش الفكرية تُوجد في مجتمعاتنا، ويكفيك أن تجدها في الردود الطافحة عنفاً لفظيًّا، وشراسةً قاتلة، حتى لا تكاد تفرِّق بينها وبين تلك الفئة الظاهرة التي جاهرت بالخصومة، وأعلنت عن شرورها وهي ترفع لواء الحق والدين..! والله إنَّني لأرى الدواعش الفكرية التي تطل برأسها في مواضيع شتى وهي تنصب المشانق، وتقيم المقاصل، وتلهب السياط، بعبارات قاسية، مُوجعة، لا تعرف رحمةً، ولا تعي رأفة..! هذه الدواعش الفكرية لا تختلف عن تلك لأنها تُذكي الفتنة، وتقصي البشر، وتنشر الشرور، وهذه ليست من محامد الإسلام في شيء. هؤلاء مرضى بالاستعلاء الديني الذي يُوهم صاحبه بأنَّه الأعلى مكانةً دينيًّا فينظر بفوقية على الآخرين الذين يعتقد أنهم عصاة في نفسه، ويحسب نفسه أنه الأقرب إلى الله. الاستعلاء الديني إنما هو محصلة ما يُسمَّى بأمراض القلوب كالحقد والحسد والكبر..!

... إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي لتطفح بالردود الغليضة الفظة لمن يحَسب نفسه وصيًّا على الدين، والله هو الوصي على دينه؛ فأصبح صاحب الرأي يخاف على نفسه ممن يظهر التدين قبل غيره؛ لأنَّ الأوصافَ الشنيعة جاهزة، والتهم الفظيعة حاضرة، فما عليه إلا أن يطرح وجهة نظر في مسألة فقهية لا عقدية، أو يُدلي بوجهة نظر أو رأي في مسألة من المسائل الحياتية؛ ليرى كيف تنهال عليه السهام المتطايرة -دون تعميم- ممن تظهر صورهم بأنهم أهل تدين، وورع وتقى ظاهري وهم أقسى الناس لفظاً، وأشنعهم قولاً وما هؤلاء إلا منفرون من دين الله، طاردون للعباد من رحمته..! يقول الحق سبحانه وتعالى: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" (آل عمران:159).

... إنَّني لأتألم حين أرى ردوداً تُغلفها شراسة اللفظ، وعنف العبارة، وشدة القول وهي تصدر ممن يحسب نفسه مُنافحاً عن الدين ومدافعاً عنه، فما أَخْيَر من مدافع لطيف العبارة، رفيق القول، شفيق الحديث، يأخذ غيره باللين، ويجادله بالحسنى. بهؤلاء الرفقاء أحب الناس الدين، وأقبلوا عليه، كما قالت لي امرأة إنجليزية وقد رأت مِنَّا حُسْن التعامل: "ليت لنا ديناً مثل دينكم..!".

إنَّني أرى في وسائل التواصل الاجتماعي وفي منتديات الحوار (وليتها توافق ما سميت عليه) مشانق تقام للمخالفين في الرأي، ومقاصل تنصب للمجادلين في الحجة، وسهاماً مسمومةً تطلق من هنا وهناك على كل من له رأي في جانب من الجوانب أو مسألة من المسائل..!. فإذا كان الخوف مصدره مُسلمون، وإذا كان العنف معينه متدينون، فأين هي رحمة الإسلام؟ وأين هو عطفه ورأفته؟! في سَنَةٍ من السنوات، كتبتُ في شأن فَهْم الإسلام، وقضية "التدين المغشوش" -بحسب توصيف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله- فإذا بالمقال يُوقفه صاحب الصحيفة نفسه، وحين جلست إليه، قال لي: "والله لقد أوقفته محبةً لك، فقد خشيت عليك الأذى من هؤلاء..!!". يا سُبحان الله، كيف يخشى المسلم من المسلم ونبينا العظيم -عليه أفضل الصلاة والسلام- يقول: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا.. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.. التقوى هاهُنا -ويُشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" (أخرجه أبومسلم في صحيحه). هذا أمر مُؤلم، ويحز على النفس قوله..!

وكمثال على الاستعلاء الديني الذي ابتُلي به بعضُ المتنطعين ما أخبرني به أحد المفكرين الإسلاميين المعروفين في مجتمعنا: أنَّ شخصاً قد وَصَفَ أحد الكُتَّاب بأنَّه علماني لهيئته لا لمضمون فكره..! يقول: فطلبت إليه أن يأتيني بمقالة كتبها الكاتب ضد الدين، فلم يستطع، فأردفت له القول: "قد يكون هذا الذي تصفه أنت بالعلماني أقرب إلى الله مني ومنك..!!". ليت هذا الأنموذج الواعي هو الذي يتصدى لهؤلاء السطحيين بفكره النيِّر، وحجته السمحاء التي تصدر عن قلب اغتسل بطُهْر الإسلام، وتنسَّم عفوه، وتعطر أشذاؤه.

يُخبرني أستاذٌ جامعيٌّ بأنَّه وبَعْد أن فَرَغ من انتقاء مشاركين في برنامج قيادي يهدف إلى تنمية القوى البشرية، أعلن ذلك عَبْر وسيلة من وسائل التواصل الإجتماعي، فإذا بواحدٍ من دَوَاعش الفكر الغلاة يتَّهمه بأشنع الاتهامات، بل ويعلن الحرب عليه..!! فقط لأنه أراد هدفًا إلى تنمية الإنسان، وإذكاء الروح القيادية فيه.

... إنَّنا بَيْن مُتطرف فاجر، ومُلحِد ماكر، ذاك يُلهبنا بسياطه الحادة، وألفاظه الشرسة، وهذا ينشرُ خبثه ومكره في شائعات وخزعبلات وإسرائيليات وخرافات، وكلاهما في الشر سواء..! يُنقل عن إمام الدعاة فضيلة الشيخ مُحمَّد الشعراوي -رحمه الله- قوله: كنتُ أناقشُ أحدَ الشباب المتشددين، فسألته: هل تفجير ملهى ليلي في إحدى الدول المسلمة حلال أم حرام؟ فقال لي: طبعا حلال وقتلهم جائز، فقلت له: لو أنك قتلتهم وهم يعصون الله ما هو مصيرهم؟ قال: النار طبعاً، فقلت له: الشيطان أين يريد أن يأخذهم؟ فقال: إلى النار طبعاً، فقلت له: إذن تشتركون أنتم والشيطان في نفس الهدف، وهو إدخال الناس إلى النار!

إنَّ العنف اللفظي شرارة للفتن حين تنطق به الألسن جزافاً، وهي تحسب أنها تنتصر لدين الله، فتنسب إلى نفسها الحقَّ وإلى غيرها الباطل، في حين أنَّ دين الله على عكس ما تدعيه. يقول الدكتور عدنان إبراهيم: "هل حدث مرةً واحدةً أن نبيًّا من الأنبياء أو الرسل لوَّح بالعنف، بالقتل، بتأليب الناس بعضهم على بعض، بتهديد جماعة من الناس؟ لا يمكن، الأنبياء باستمرار منطقهم سلامي لا عنفي، يقوم على الإقناع والمحاورة، والقرآن يؤكد على هذه الروح بالنفي.. ينفي باستمرار على الأنبياء روح السيطرة، وروح الهيمنة على عباد الله، وروح الجبروت "وما أنت عليهم بجبار" (ق:45).

... إنَّ دواعش الفكر ليحملون فكراً عقيماً، يحرِّض على الفتنة والعنف، ويدعو بظاهر القول أو بباطنه -بصريحه أو بخفيه- إلى العصبيات المذهبية، والفرقة الطائفية، والنعرات القبلية، متوسلة لأجل ذلك شتى الوسائل، منتهزةً أوهن الأعضاء في الجسد الاجتماعي، ضاربةً أضعف المواطن، مُستغلةً أوهن القوى؛ فإذا خَشِى المسلم على نفسه من أذية المسلم، فإنَّ هناك انتهاكاً لدين الله في الطرف المؤذي، وخسفاً لمفاهيم الحق والجمال والخير التي جاء بها الإسلام ليملأ الدروب نوراً، والقلوب رحمة وسماحة. لهذا؛ فإنَّه لا عُذْر لمسلم أن يغلظ في لفظ، أو يتجنى بتهمة، أو يرمي بجرم، أو يقسو بشتيمة باسم الله والدين، فإنْ فَعَل ذلك خالف فطرة الدين السمحاء. يقول الشيخ الحبيب علي الجفري: "علامة الصدق فى التدين هي أن يظهر فى الأخلاق أو المعاملات، أينما كمُنَت الأخلاق الراقيه كَمُل الدين، أينما كمُنَت الأخلاق الراقيه كَمُل العلم، وإذا نُزعت الأخلاق الراقية فلا دين ولا علم".

إنَّ الإنسان ليعبِّر عن نفسه بما يأتي من الأقوال والأفعال، ولا يمكن لمؤمن فَهِم الدين أنْ لا يرتقي بحسن خلقه درجات رفيعة، يتهذب فيها لفظه، ويتأدب فيها كلامه، فيصون أعراض الناس، ويحفظ كرامتهم. أما القساة القلوب، جهم الوجوه، عتاة الألفاظ فأولئك مرضى مصابون بالعقد النفسية يتلفعون برداء الدين، ويتسترون بأستاره، وهؤلاء أشد نكالاً على الدين من غير المؤمنين.