سيج يثري

عائشة البلوشية

تحلقنا كعادتنا كل صباح تحت السدرة الضخمة المطلة على المركاض، في حلقة نصفها الشرقي للبنات ونصفها الغربي للأوﻻد، وجلس مُعلمنا محمد القبيلي رحمه الله عند جذع الشجرة، وأمسك كل واحد منِّا بمصحفه يُرتل آي القرآن الكريم، بحيث نتناوب في الجلوس أمام المعلم بحسب الدور في الجلسة، لنقرأ أمامه ويصحح لنا الخطأ، وﻷنني كنت قريبة منه سمعته يصرخ في أحد الأطفال بعد أن لسعه لسعة قوية بالخضرية التي في يده: "اعدل قراءتك، مالك تقرأ وكأنك دبية في خرس"، والدبية هي ذلك النوع من الدبابير الذي يعيش منعزﻻً ويتخذ بيتاً من المدر، يبنيه بكل صبر وأناة ليضع يرقته الوحيدة فيه، وبالرغم من قوة صوت جناحيه أثناء الطيران، إﻻ أن لسعته غير مؤلمة مثل باقي أنواع الدبابير (الصفيرو، والسبن)، أما الخرس فهو الزير الكبير، وبمجرد أن تتخيل صوت ذلك الدبور في خرس فارغ ستعرف بأن الطفل يقرأ القرآن بخنف واضح وغنة متعمدة، وﻻ يستبين المستمع مخارج الحروف والكلمات منه، وعليه أن يقرأ بصوت جلي واضح وإﻻ تعرض للضرب المؤلم، وكان صوت المعلم رحمه الله مرتفعًا بحيث يصل إلى جميع الدارسين، وإياك أعني واسمعي يا جارة، وكنّا نفهم مغزى المثل بمجرد سماعه، فجلوسنا الصامت مع الكبار يجعلنا نعيش التجربة العملية للمثل الدارج، فلا آي باد يشغلنا، وﻻ بلاي ستيشن تشتت انتباهنا، وﻻ هاتف ذكي يهز تركيزنا...

تربينا منذ نعومة أظافرنا على سماع الأمثال الشعبية التعليمية، لذلك لن يكون هناك أي حاجة للشرح المسهب أو الدخول في التفاصيل لمعرفة المقصود، وإنّما يلقى علينا المثل لنفهم المطلوب مباشرة، فنجيب إن كانت هناك حاجة للإجابة، أو نصحح الخطأ إن وقعنا فيه، فمثلاً إذا قيل لنا "مالك كما عوس كاشخ في ظهره؟" نعرف على الفور أن ابتسامتنا تفضح فعلة شنيعة قمنا بها في الخفاء، فعندما تذهب بمخيلتك التصويرية لثعلب صحراوي يقف في أرض خلاء، لن تتعرف عليه بسبب التمويه الطبيعي للونه المقارب للون الأرض، ولكنه يفضح وجوده عندما يكشر عن أسنانه الحادة، في حركة وكأنه يبتسم للناظر إليه، وهي كما تعرف باللغة الإنجليزية بال cheeky smile ...

"جاكم ثوم السطوح" ومن سياق المثل يتضح أن الشخص هو وكالة أنباء متنقلة، فقد كانوا يجففون حصادهم من الثوم قديماً على أسطح المنازل، بعيداً عن ظلال النخيل الوارفة، فتنتشر الرائحة، ويعرف صاحب المحصول من رائحة الثوم المنبعثة من سطح منزله، وأحيانا تسمع أحدهم يقول "مسعوده تهتي الخبر ما منشوده"، و"تهتي" هو فعل مضارع بمعنى تأتي بالشيء، وكلا المثلين يحملان نفس المعنى والمغزى، ويا لكثرة ثوم السطوح في زماننا هذا، لدرجة أنّه وصل إلى المستوى العالمي والفضائي، فأصبحت الشائعات تنتقل كانتقال النار في الهشيم، بل هي أسرع من ذلك بكثير، ونحاول جاهدين أن نستقصي الخبر اليقين، ولكن هيهات فلكل مصدر إعلامي محصوله ورائحته الخاصة من الثوم، لدرجة أن البعض منّا أصبح ﻻ يأبه بمتابعة الأخبار ويفضل أن يتوجه بانتباهه ﻷيّ شيء آخر، ﻷنه ﻻ يجد المصداقية التي تشبع فضوله في الوصول إلى المعلومة، أو ﻷنه ﻻ يريد أن يوغر صدره ضد جهة بعينها، أو أن ينحاز لطرف دون آخر، أو ﻷنّه سئم من رائحة الثوم، التي أصبحت تفوح طوال أيام العام، وأصبح يبحث عن رائحة الورد أو الياسمين أو الرياحين بين المعروض، ولكن الروائح الزكية ويا للأسف أصبحت سلعًا ﻻ تغري شاشات الأخبار، ورغم أن حاضرنا مليء بواحات الجمال إﻻ أنني توجهت بناظري إلى الماضي، لاستجلب عبقه وانسجه في ثوب الحاضر، وﻷن بيتي عمان بيت جميل وهادئ وآمن -أدام الله عليه هذه النعم- أهتم بشأنه الداخلي، ففيه من نعم الجمال الطبيعي والموروث الثقافي المتأصل في عمق التأريخ الموغل في القدم، ما ﻻ يجعل لي مجالا ﻷهتم بغيره في الوقت الراهن، فأختلي بريشتي ﻷرسم ملمة تربوية، أو لفتة اجتماعية، أو مشكلة بيئية، أو ظاهرة جيولوجية، أو نفحة فلكلورية لوحات فنية أرسمها بفرشاة صبغها دم القلب، ومعانيها نبل وأصالة الشعب العماني الأبي، وأصم أذني عن كل من يحاول أن يشوه هذه النظرة التي أرى بها بلادي، هذه الأرض التي أراها صنوان واحد (قائد وشعب)، وأحب نشر الروائح العطرة الزكية، وخصوصًا تلك المرتبطة بالقيم والمبادئ والأخلاق الأصيلة في مجتمعنا العماني، وهذا هو ردي لكل من يسألني عن كتاباتي الأسبوعية، ويصفها بأنها تغريد خارج السرب، فحتى ذاك الذي يزكم أنفه برائحة الثوم طوال السنة، تأتي عليه أيام يبحث عن زهرة قرنفل، أو حتى بعضا من خيوط الزعفران، ليتذكر بها الروائح الطيبة، ونسيج مجتمعنا الغني بالموروث بكافة أطيافه يثري الباحث فيه، ويجعله متعلقًا بتفاصيله ﻷعوام مديدة، وقد خلقنا الله تعالى أممًا تتنوع فيها الأسراب والمخلوقات، ولم يخلقنا لنصبح نسخا طبق الأصل من بعضنا البعض، وأخيرا وليس آخرا، لوﻻ اختلاف الأذواق لبارت السلع في الأسواق.

تعليق عبر الفيس بوك