الدولة الخليجيَّة الغنائميَّة.. عودة القهقرى

عبدالنبي العكري

في مقال سابق، كتبتُ حول التحوُّل من الدولة الريعية الخليجية إلى الدولة الغنائمية. وفي هذه المقالة، سأحاول عرض إعادة الدولة الغنائمية لهندسة المجتمع وإعادته القهقرى إلى مرحلة ما قبل الحداثة من حيث الهوية والانتماء والقيم.

لقد تطوَّر المجتمع الخليجي بشكل كبير رغم الإعاقات التي أسهم فيها الاستعمار البريطاني، ثم الدولة في عهد الاستقلال؛ فقد أضحى معظم المواطنين من سكن المدن أو حتى القرى المدينية والمجمعات السكنية، وانقرضت تقريباً الأمية الأبجدية والأمراض الوبائية والفقر المدقع، وأضحى سكان الخليج في مقدمة الدول العربية من حيث مؤشرات التعليم والصحة والإعلام ووسائل التواصل الحديثة؛ فمنهم اليوم من هم في أرقى التخصصات من طيارين وجراحين ومهندسين وعلماء...وغيرهم؛ بمن فيهم النساء كالرجال.

كما تراجعتْ كثيراً الانتماءات القديمة -القبلية والمناطقية والمذهبية- وبدأت تتشكل روابط جديدة كالانتماء للأحزاب والجمعيات والمهن والمدن. وكان يمكن أن يترتب على ذلك اندماج أكثر، وتشكّل هوية وطنية أقوى لولا عبث الأنظمة والقوى السلفية والمذهبية والطائفية والقبلية برعاية رسمية. لكنه ومع التحول المتسارع في بنية الدولة وعقيدتها من دولة ريعية تفيء بريعها على أغلبية المواطنين وتراعى التقاليد في حفظ الكرامة والتراحم، إلى دولة غنائمية حيث تحتكر السلطة والثروة.

ويجري بوتيرة سريعة -وبمختلف الوسائل- إعادة هندسة المجتمع وإرجاعه القهقرى إلى التشكيلات التقليدية، وإضعاف المؤسسات الجنينية؛ مثل: الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحتى مجالس الشورى والبرلمان، رغم محدودية صلاحياتها، وشعف تمثيلها.

نرى اليوم التشديد على الانتماء القبلي، ويتجسَّد ذلك في إبراز زعماء القبائل والعشائر والقبائل عموماً في الشأن العام، خصوصاً في الشأن السياسي، ويتَّخذ ذلك عدة تعبيرات في وفود التهنئة أو الاستنكار أو غيره من المواقف؛ حيث يتصدَّر زعيم القبيلة أو العشيرة أو العائلة الممتدة المشهد. وكذلك يافطات المباركة أو التأييد أو الاستنكار التي تملأ الشوارع والساحات. وينطبق ذلك على وسائل التعبير الأخرى مثل التوقيع على الصور الضخمة وإعلانات الصحف والعرائض.

وقد برزت مؤخراً ظاهرة خليجية فيما يعرف بالوجهاء والأعيان الذين يُراد بهم تمثيل الطوائف أو المناطق في التعاطي مع الدولة في قضايا الشأن العام. كما يجرى إبراز الانتماء الطائفي، حيث يقسّم الشعب إلى سنة (أهل الجماعة) من ناحية، والشيعة أو الزيدية أو الإباضية من ناحية أخرى، ويترافق ذلك مع فتاوى فتاكة وتحريض خطير لمن هم خارج أهل الجماعة؛ حيث يوصم الشيعة مثلاً بأنهم رافضة، والإباضية بأنهم خوارج، والزيدية بأنهم تلفيقيون؛ مما يستثير أيضاً ردود فعل من قبل المنتمين لتلك المذاهب.

وباستثناء عُمان، فقد رعت الدولة الخليجية -وبدرجات متفاوتة- عملية إعادة هندسة المجتمع، والعودة إلى هذه التقسيمات التقليدية التي لم تكن بتلك الحدة في زمانها، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار أوضاع التخلف والجهل السائدة حينها، لكنه يراد لها اليوم ليس منع الاندماج بين أبناء الشعب الواحد، بل الاحتراب فيما بينها، والالتهاء عن حقوقهم كمواطنين وليس كرعايا، والسكوت عن الاستئثار بالثروات الهائلة، والسير ببلداننا إلى المجهول في غياب اقتصاد بديل لذلك المعتمد على الهايدروكاربون حالياً، خصوصاً وأنَّ بوادر تراجع أهمية إنتاج المنطقة من الهايدروكاربون يتراجع. وفي ظل الاستئثار بالثروة وتراجع دور الدولة في كل شيء عدا القمع، فإنَّ المواطنين يلجأوون طبيعياً إلى مكوّناتهم الأصلية كالقبيلة والعشيرة والطائفة.

وحالما تنشب ملاسنة بين مواطنين -سواء من البلد الواحد أو من الخليج- فسرعان ما يرفع الواحد منهم الصوت "قل لي من أنت؟ أنت ابن من؟ ومن أي عشيرة؟"، وهكذا ينحدر الانتماء من الوطن والشعب إلى القبيلة والعشيرة والمذهب.

هل من صحوة للمواطنين؟ هل من صحوة لشعوبنا لتدرك المنحدر الخطير المتدحرجة إليه؟ وإلى أي درك أسفل نحن هاوون؟

الحرب تبدأ في العقول، وها هي بوادرها في شق صفوف الشعوب، وتحريض نصفها ضد النصف الآخر، وتصنيفه إما خائن أو وطني.. لذا؛ فنحن سائرون على طريق المنحدر السوري والليبي... وقد أعذر من أنذر.

تعليق عبر الفيس بوك