لا تسمحوا لها بالرحيل

زينب بنت محمد الغريبية

zainabalgharibi@yahoo.com

يبدو أنّ معالم الحياة المادية بيننا تغيّرت كثيرا، ربما صار تحديث في نمط حياة بعض البيوت، وربما بُنيت بيوت حديثة وأنيقة أخرى لسكان جدد ممن كانوا صغارا أو حتى ممن أصبحوا كبارا، وربما تعلم الناس، فأصبحت أكثرية هذا الجيل هم من المتعلمين، ربما الحياة الحضريّة المتطورة أصبحت أكثر انتشارا حتى في القرى والمناطق النائية، لكن ليس هذا هو الفرق الواضح بين الحياة الإنسانية قديما وحديثا، إنما الفرق يبدو أكثر عمقًا؛ فكثير ممن كانوا كبارًا قد رحلوا، لم نعد نراهم بيننا، ولن نراهم، فقد أصبحوا تحت الثرى، وفي الواقع ومن المبكي أنّهم رحلوا ورحلت معهم القيم الجميلة، والحياة البسيطة الهادئة، وكأنّهم أخذوها معهم تحت التراب، بقي العديد ممن هم مخضىرمين ليعيشوا تغيّرالحياة، ولكن الحياة لم تعد هي تلك الحياة، التي كنا نراها، ولا تزال عالقة في ذاكرتنا، لأنهم أرادوا أن يدخلوا النمط العصري على حياتهم، بما تحمل من تغيير في نمط كل شيء؛ فتبدد كل جميل فيها..

معها تقلبت القلوب، فلم تعد كالسابق، حتى أنّ الأخ لا يبادل أخيه الصفاء، فكيف بابن العم، أو الجار، أو القريب، أصبح يقال أنّ الأقارب هم عقارب، وللأسف إنّ مجريات الحياة تؤكد هذه المقولة، حتى رمضان بما يحمله من دعوة للتآخي، والقرب وصلة الأرحام، لم يفلح في مُؤالفة القلوب من جديد، فقد يجتمع الأهل سويا ولكن القلوب شتّى، حتى إن الفتيات لا تخرج من باب البيت، وأصبح التلفاز بما يحمل من مسلسلات ووسائل التواصل الاجتماعي لها حضنها الاجتماعي الدافئ الذي تقضي معه وقتها، الذي لا تعلم فيما تقضيه بحكم قلة خروج الفتيات من المنازل مقارنة بالشباب..

حتى القرية التي طالما كانت مهدًا للتماسك، وكأنّ كل من يسكنها ينتمون لأسرة واحدة، فاقتصرت زيارات التنقل بين البيوت -إن وجدت- على بيوت الإخوان وأبناء العمومة، وللنساء الكبار فقط، وعندما تمر في وسط القرية تكاد لا ترى إلا قط يركض من ذاك البيت إلى البيت المجاور، بحثا عن لقمة تشبع جوعه، وأصبح حديث الناس، عن ابني وابنك فيما يعمل، وماذا اشتريت أنت؟ وماذا اشتريت أنا؟ في جو مشحون بالمنافسة المادية، فهذا يملك مالا أو ولدًا أكثر منّي!!

قد اتسعت البيوت مساحة، وكثر عدد الأفراد بداخلها، وارتقى المستوى المعيشي للأفراد، إلا أنّ ما يفقدونه دون أن يشعروا، هو تلك الألفة التي كانت، ذاك الصفاء الذي اغتيل، تلك المبادئ التي تشكل مجتمعنا المُتماسك، تلك الفترة من الزمن، حين كان أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، ولكن اليوم نفتقد أن نكون سويا حتى مع أنفسنا، ولا حتى على عدونا، فرّقت ماديات الحياة بيننا، وغيّرت ما جلبته لنا الحياة العصرية ما في قلوبنا، فأصبحنا كمن يُحسبون جميعًا، وقلوبهم شتّى، فهم لا يعقلون ولا يدركون أنّ هذا مدعاة لضعفهم وتفرقهم، فإنّ في تفرقة القلوب، وبُعد مصالح الناس عن بعضها وهن وضعف لأي مجتمع، وأي وحدة مجتمعة أيًا كان مستواها صغيرة على مستوى الأسرة الصغيرة من إخوة أو على مستوى العائلة الأكبر من أبناء عموم وأخوال، أو على المستوى الأكبر القبيلة والحارة والبلدة والولاية والمجمتع بأسره..

فالتآلف والتراحم، ومعرفة الناس ببعضها وتعاونهم، ومساندتهم وقت الحاجة، يقوى المجتمعات ويشد أزرها، ويصبح صوتها واحدًا، وعندما لا يعلم الجار حاجة جاره، ولا مرضه من صحته، فعن أي قوة نتحدث، وبأي مجتمعٍ إسلاميٍ نستشهد، أمام المجتمعات غير المسلمة؟؟ فلماذا نسمح للماديات أن تغير من جوهرنا؟ ومن المبادئ التي تربينا عليها وألفناها منذ صغرنا؟ تلك المبادئ المقربة على قلوبنا بكل ما تحمله من تفاصيل، والتي لو عاش عليها أبناؤنا لأحبوها، وسَعُدت حياتهم، ونقلوها لمن سيأتون من بعدهم، من أولادهم وأحفادهم، وبذا يزداد مجتمعنا قوة، بقوة أجياله وتماسكهم، وبما تتناقله من أخلاق ومبادئ وتآلف وتراحم، ونبذ للأحقاد والغيرة من النجاحات التي يحققها أخوتنا وأصحابنا، بل نشدد على أزر كل ناجح لندعم نجاحاته، لنصعد بالمجتمع عاليا، ويقوى بنا ونقوى به، ونصبح حينها نموذجا للمجتمع المسلم المتآزر المتعاضد، أقوياء على الكفار، رحماء فيما بيننا..

انعكست الآية في حاضرنا؛ فحياة البشر تبدو كمن هم أعزة على بعضهم، رحماء على الغرباء، كل من يزور من الخارج، يرى عجائب المجتمع من طيبة وسماحة، وعدم رفع الأصوات، والأدب والاحترام، وأصبحت تلك هي سماتهم التي يتحدث عنها كل زائر، وفي الواقع يبدو الداخل مختلفا كثيرا، فالصورة الحقيقة تختلف، تفكك وتلف أواصر، وبعد عن القيم..

فتحول الناس تبعا لذلكإلىأناسآخرون، آراؤهمهيآراءغيرهم، وأفكارهمهيأفكارغيرهم،يفعلونأشياءلايريدونفعلها،فقطلإرضاءالآخرين، ومسايرة المجتمع بمادياته، وهم لا يعلمون أنّ إرضاء الناس غاية لن تدرك، فما يرضي أحدهم قد لن يرضي الآخر، فهكذا يفني الإنسان نفسه سعيا لإرضاء هذا وذاك، دون أن يحرز تقدمًا في حياته،فهناكحياةواحدةلكلمنّاوهي حياة الشخص لنفسه، قبل أن تكون لغيره، وبعدها سيحاسب عن عمله هو لا عن عمل غيره، فالعطاء والإحسان لا يعني الحياة كغيرك، من أجل غيرك، ولكن الحياة بالحسنى من أجلك أنت ومن أجل غيرك..

الضياع الذي نعيش فيه في مجتمع غير الذي كنا نعيشه واعتدنا عليه، بفطرة أهله البسيطة الطيبة، جعلتنا لا نستطيع التمييز بين البشر الذين يحملون فيقلوبهمالخير ممن يحملون الشر،تعجبت كيفتكون قلوببعضهمبهذهالقسوةوهذاالتناقض، ألميعتصرنيلضياعبعضالفضائلوالقيم، فيزمنيُنظر لظاهرالمرءلالباطنه، وطغتالمادةفيالمعاملات، فيزمنأصبحالطيبجبانا، يترقبوناللحظةالتي يستغلونهفيها،وأصبحقليلالكلاممعقدًاالكليتجنبه، والتقيغيرمتحضرالجميعينظرهبطرفعين،ولكن لا يمكننا الاستسلام، والرضوخ للأمر الواقع وتقبله كما هو، فلا نقل: زماننايفرضعليناأننكونوحوشاحتى لا تأكلنا الذئاب، فنكذب ونغتاب ونجاملبالسوء، ونلغومنأجل أن نؤنسالمجالس، ونقسوونكرهونعتديكينبدو أقوياء، نسرقونخدع ونرتشيكينبدو ناجحين..

بل نحن نبقى نحن، متمسكين بفضائلنا نحو السعي للحياة التي كانت، وإرساء قواعدها، فقوتنا بها، وكرامتنا بين الشعوب بالتمسك بها.. فلن نسمح لها بالرحيل.

تعليق عبر الفيس بوك