مداريَّات حزينة.. تأمُّلات في حياة هنود البرازيل

فيصل الحضرمي

"قريبون مني كصورة في مرآة، أستطيع لمسهم، لا فهمهم".. هكذا يلخِّص كلود-ليفي شتراوس العلاقة الملتبسة بينه وبين القبائل الهندية التي يتمحور حولها كتابه "مداريات حزينة" الصادر سنة 1955، بعد انقضاء ما يقارب العقدين من الزمن على آخر رحلاته في أدغال وسهول ومفازات البرازيل؛ حيث قطع آلاف الكيلومترات، وتكبَّد عديدَ المشقات والأخطار بغية الوصول إلى تجمعات قبائل الكينجانج، والكادوفو، والبورورو، والباريسي، والنامبيكوارا، والمونديه...وغيرها، ودراستها ميدانيًّا. أخطار محتملة يمتد طيفها من الوقوع ضحية لعملية سرقة إلى الغرق في تيارات الأمازون الجارفة إلى التعرض للقتل على يد قبيلة معادية.

كان هدف شتراوس من السفر إلى أطراف العالم تلك اقتفاء ما يسميه روسو "أشكال التقدم غير المحسوسة للبدايات" سعياً وراء الحالة التي يصفها الأخير بأنها "لم تعد موجودة، وربما لم توجد قط، ولن توجد أبداً على الأرجح، وعلينا مع ذلك أن نحصل على معلومات صحيحة عنها، حتى نحسن الحكم على حالتنا الحاضرة". كانت الانطلاقة من مرسيليا على ظهر باخرة ستتوقف في مرافئ برشلونة وبلنسية وملقا وأحياناً أخرى في الجزائر ووهران وجبل طارق والدار البيضاء، وأخيراً في دكار قبل أن تعاود الإبحار الأكبر مباشرة باتجاه شواطئ البرازيل وصولاً إلى ساو بولو، حيث يدرِس في الجامعة التي تشاطر المدينة اسمها.

ساو باولو التي يُلاحظ شتراوس كيف تنطبق عليها المقولة الشهيرة المصاغة أساساً لتوصيف أمريكا بأنها "بلاد اجتازت البربرية إلى الانحطاط، دون أن تعرف الحضارة"، تماماً مثلما تنطبق على ربيباتها من مدن العالم الجديد كنيويورك وشيكاغو وريو دي جانيرو، تمتاز ببعد زمني قصير يختلف عن زمن مدن أوروبا العريقة بتاريخها الذي "يبدو وكأنه بلا بداية" والذي تشهد عليه آثار الرومان وكتدرائيات القرن الثالث عشر، وتماثيل عصر النهضة. ولا يمكن تذوق جمالية هذه المدن الجديدة ذات الأبنية الشاهقة و"النظيفة" دون استحضار البعد الزمني الخاص بها، سيما إذا ما قورنت بالمدن القديمة كروما وباريس وغيرهما، والتي يحيل سواد واتساخ عمرانها في المقابل إلى بعد زمني آخر له خصوصيته وجماليته المتفردة.

ستنطلق أسفار شتراوس إذن من ساو باولو باتجاه العمق البرازيلي حيث تتناثر القبائل الهندية عبر آلاف الكيلومترات، وستتنوع وسائط النقل التي سيستقلها باختلاف الطرق والمسارات التي ينبغي قطعها، بين مروحيات وشاحنات ومراكب ونقائر وأحصنة وبغال وثيران، وهذه الأخيرة "كانت تتحول إلى ما يشبه النساء المتغطرسات اللائي ينبغي مراعاة أمزجتهن ونزواتهن، والتعابير عن السأم لديهن. فالثور لا ينبه إذا تعب، أو كانت حمولته أثقل من اللازم، بل يتابع المسير ثم ينهار فجأة ميتاً أو منهكاً إلى درجة لا بد له فيها من ستة أشهر من الراحة لاسترداد قواه".

وسيكون بحاجة -زيادة على الطاقم العلمي المصاحب- لمجموعة من المرشدين والطهاة والبقارين والحمالين، وستستمر أسفاره مدة خمس سنوات ستعصف به خلالها حالات وجدانية شديدة الإلحاح من قبيل الشك في جدوى تخليه عن الحياة التي يتنعم بها في تلك الأثناء زملاءه "الأكثر حكمة" في فرنسا ممن يزاولون الحياة الجامعية أو أولئك الذين أصبحوا نواباً، وربما سيصيرون وزراءً في المستقبل، بينما يقطع هو الفيافي، ويلاحق "نفايات إنسانية". شك يدفعه إلى التساؤل حول ماهية التحقيق الإثنوغرافي، "أهو نتيجة اختيار أكثر عمقاً يعني إعادة النظر في المنظومة التي ولدت وكبرت فيها؟"، ولكنه لن يسمح لليأس بأن يستحوذ عليه حد النكوص عن المهمة التي جاء من أجلها، وسيواصل تدوين الملاحظات والتأملات حول أنماط حياة الهنود بجوانبها النفسية والاجتماعية والثقافية، ودراسة التشابهات والاختلافات بين العناصر والمفاهيم الثقافية عند الشعوب "البدائية" ومثيلاتها عند الشعوب "المتحضرة".

يتحدث شتراوس عن مفهومي "السلطة" و"الرئاسة" عند الهنود، ويسرد في هذا المقام ما رواه مونتنييه على لسان أحد الهنود الذي أجاب عن سؤال طرحه الأول حول امتيازات الرئيس بقوله أنها "السير في المقدمة أثناء الحرب"، وهي إجابة شده لها مونتنييه وأوردها في رسائله الفلسفية الشهيرة، وبحسب شتراوس فإن هذه الواقعة المهمة تبقى أقل دلالة من كلمة "أوليكانديه" التي تشير بها لغة النامبيكوارا للرئيس وتعني حرفياً "الذي يوحد" أو "الذي يضم معاً"، والتي يتجلى عبرها وعي أبناء القبيلة بالغاية المرتجاة من تعيين رئيس للجماعة يتمتع بالرضى من الجميع. ويؤكد شتراوس أن الدراسات الأنثروبولوجية تدعم ما توصل إليه روسو الذي فهم أن "عناصر ثقافية مثل "العقد" و"التراضي" هي المادة الأولية للحياة الاجتماعية، ومن المستحيل تخيل تنظيم سياسي لا تكون حاضرة فيه "وليست مجرد تكوينات ثانوية يمكن الاستغناء عنها كما كان هيوم يعتقد".

ومن هُنا، يثني شتراوس على روسو الذي كان واسع المعرفة الإثنوغرافية ويعززها، "بعكس فولتير" باطلاعه الميداني المعروف عنه من خلال مخالطته العطوفة للفلاحين، ويشير إلى الدور المهم الذي لعبته كتابات رحالة القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي تشكل أصل الوعي الإثنوغرافي في العصور الحديثة، في تحديد المسار الذي انتهجته الفلسفة السياسية والأخلاقية حتى الثورة الفرنسية ولو بتأثير غير مقصود، ويستدل على هذا التأثير "بالمعجزة" التي تحدث عنها لايبنتز الذي علمه متوحشو الأمريكيتين أن "لا يعتبر فرضيات الفلسفة السياسية براهين أبداً".

ويرى شتراوس أنَّ القبول بمهمة الرئاسة تتطلب استعداداً نفسياً خاصاً يؤكد على تمتع البدائيين "بفردانية" لا تختلف عن تلك الموجودة في الحضارات الموصوفة بأنها كذلك، ويرى أن دراسة ظاهرة تعدد الزوجات كامتياز حصري للرئيس من شأنها أن تسهم في تطوير نظرية "تعدد الزوجات" في العلوم الإنسانية. كما يدون تأملات أخرى حول غياب ظاهرة "الكتابة" عند الهنود، واكتفاءهم بنوع بدائي من اللغة المحكية والرسوم البسيطة، ويتساءل عما إذا كانت الغاية الأساسية من الكتابة في الحضارات المدنية هي "إدماج عدد كبير من الأفراد ضمن منظومة سياسية، وإخضاعهم لتراتبية الطوائف والطبقات" أو بتعبير أكثر حدة "تسهيل الاستعباد".

عبر كتابه هذا، "يؤكد شتراوس الأخلاق عنصراً داخلياً في الإنتاج المعرفي، ويصير المعرفة قضية أخلاقية، بعيداً عن اجتهادات أكاديمية تشتق الحقيقة من القوة" كما يقول فيصل دراج في المقدمة. ويضيف أن تمسك شتراوس بـ"فكرة الاختلاف الثقافي" جعلته ينفر من "كل منظور يبدأ بالتاريخ الأوروبي وينتهي به". ومن هنا جاء انتقاده للتقدميين الذين "يتجاهلون تراث بقية الشعوب المتراكمة على ضفتي الأخدود" -وفي مقدمتهم ميشيل فوكو بمركزية تفكيره واختزاله التاريخ في حدود أوروبا الضيقة- كما يسدي نصيحة للثقافات بأن لا تفرط في الحذر ولا في الاطمئنان، "فحوار الثقافات" و"تخليق المقاومات" كلاهما شرط أساسي لتطورها وبقائها.

faisalsalim@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك