أكلة لحوم العرب

فؤاد أبو حجلة

ليس في حالنا ما يسرُّ الصديق أو يغيظ العِدَا، بل إنَّنا لم نعد نميِّز أو نفرِّق بين الأعداء والأصدقاء الذين يتشاركون في نَهْش لحمنا، وكأنَّ عرب الألفية الثالثة لقمة سائغة أو وجبة جاهزة لكلِّ جائع للنفوذ في أرضنا أو على حسابنا.

ففي العقود الماضية، توَّلت "الرجعيات" و"الثوريات" العربية الحاكمة مهمة إخضاعنا لهيمنة الغرب والشرق ووزعت ولاءات العرب بين واشنطن وموسكو، ودفعنا أكثر من غيرنا أثمان الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية أو بين الغرب "المسيحي" والشرق "الملحد"، وكان ما كان من نهب الثروات ومصادرة الحريات ونخر المجتمع العربي بمنظومات قيم بديلة ودخيلة أنتجت ما نراه ونعيشه الآن من خراب قومي شامل.

وفي تلك المرحلة، كان الأتراك والإيرانيون شركاءنا في التبعية والخضوع، وكانوا مثلنا يعانون من القمع والنهب والتخريب الذي طال كل جزئيات الحياة في مركزي الإمبراطوريتين المنقرضتين العثمانية والفارسية. وبعد انتهاء الحرب الباردة -بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي- تغيرت الدنيا، وتغير الأتراك وقبلهم الايرانيون، لكننا لم نتغير وبقينا نراوح في الهامش السياسي الضيق.. وكذلك لم تتغير إسرائيل التي رسخت وجودها كلاعب إقليمي أساسي وطرف رئيس في المعادلات القائمة.

تقاطعتْ مصالح أطراف كثيرة في المنطقة ونشأت تحالفات بين القوى المتضادة؛ فتشارك الملالي مع "الشيطان الأكبر" في السطو على العراق وإدارة البلاد بتقاسم وظيفي يعطى للأمريكيين حقَّ التفرُّد بالقرار السياسي والاقتصادي (النفطي)، ويعطي للإيرانيين حقَّ حكم الداخل بنفس طائفي يعبر عن ذاته بحد السكين.. وهكذا ضاع العراق.

ثمَّ جاءت ثورات الربيع العربي التي أجهضها الإسلامويون واختلسها "الإخوان المسلمون"، وكادت مصر وتونس أن تضيعا أيضا، لولا هبَّتيْن شعبيتيْن أعادتا تصويب الحال. لكنَّ مآلات "الربيع" في سوريا وليبيا واليمن ظلَّت مفتوحة أمام الخراب، وصارت البلاد ساحات للإرهاب الداعشي والقاعدي والنصروي والحوثي، ومشاريع التقسيم المطروحة على أسس العرق والطائفة والولاءات الجهوية. وكانتْ إيران وتركيا -وما زالتا- تعبثان في الصراع الداخلي في هذه الدول المنكوبة، وتصبَّان الزيت أو النفط على نار الحروب الغبية فيها.

ورَغْم كلِّ الهراء الخطابي والاعلامي عن استقلال الدول ومنعتها وتحصينها أمام الاختراقات، كانت بلادنا مكشوفة تماما ليس للعبث الأمريكي والروسي فقط بل وللعبث التركي والإيراني أيضا، فدخلتْ تركيا بقوَّة في سوريا بعد أنْ دخلت إيران بقوة في العراق، وتدخَّلت تركيا في الملف الليبي مثلما تدخلت إيران في الملف اليمني، وهكذا صرنا "ملطشة" لدول الإقليم كلها بعد أن كنا "ملطشة" لإسرائيل وحدها.

... الكلُّ ينهش الآن في لحم العرب -فرنجة وفرس وعثمانيون، ويهود ومسيحيون ومسلمون- والكلُّ يستبيح الدم العربي ولا يقيم وزنا لأمة كانت، ذات يوم بعيد، تحكم العالم، وصارت، في زمن الزهو الربيعي، ساحة للقتل وللخراب.

المسلمُ يقتل المسلمَ، وليس ضحايا الإرهاب الظلامي إلا مسلمين مسالمين يقضي جُلُّهم بقصف البيوت والشوارع والمدارس.. وحتى في الجوامع.

والمسيحي يقتل المسيحي؛ فالصواريخ الإسرائيلية التي قصفت كنيسة المهد في بيت لحم كانت أمريكية الصنع، والعالم المسيحي لم يتحرك للدفاع عن مقدساته في فلسطين.

واليهود يقتلون العرب -مسلمين ومسيحيين- ولا أحد في المنطقة وفي العالم معنيٌّ بمواجهة الاحتلال وجرائمه.

تغيَّرتْ المعادلات مثلما تغيَّرت مسبِّبات الحروب؛ فقد كنا نتخوَّف من "حروب النفط" قبل أن ينبهنا الخبراء إلى "حروب الماء"، لكنَّ أحدًا لم ينذرنا بأنَّ الدم العربي يتساوى مع ماء العرب ونفطهم في جاذبيته وإغوائه لسفاحي العصر وسدنة الموت في الدول العظمى في العالم وفي الإقليم، وفي العصابات الظلامية التي تحظى برعاية هذه الدول.

وفي "ربيعنا" الزاهي تكاثر الطامعون فينا، وزاد عدد أكلة لحوم العرب.

تعليق عبر الفيس بوك