اجتهادات في قضايا الوحدة الوطنيَّة (2-2)

عبيدلي العبيدلي 

وفي إطار الاجتهادات العربية أيضا -الهادفة إلى تحديد مفهوم عصري للوحدة الوطنية- نكتشف الكثير منها في اجتهادات؛ من بينها ما جاء في كتابات كاظم الموسوي الذي نجح -إلى حد بعيد- في الاقتراب من هذا الهدف؛ فنجده يؤكد أنَّ من الصعب أن "تقوم وحدة وطنية راسخة ودائمة وقابلة للنمو والتطور إلا باستقلال كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية استقلالاً نسبياً وهو أساس فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. والشرط الضروري لذلك هو استقلال المجال السياسي وعدم طغيانه على المجالات الأخرى وسيطرته عليها، ولا سيما المجالين الاقتصادي المادي والثقافي الروحي، وتنظيمات المجتمع المدني".

ويشاطر الكاتب جمال الدين أبو عامر -في مقالته "الوحدة الوطنية مفاهيم وآليات"- الموسوي، فنجده يؤكد هو الآخر على أنَّ "لا الخطابات الأخلاقية الوحدوية ولا الأغاني والاناشيد الوطنية ولا المجال الجغرافي المشترك، ولا الأمجاد المشتركة الباذخة، ولا حتى المشتركات الثقافية والاجتماعية، -كافية مع أهميتها وحيويتها- لبناء وحدة وطنية متينة وصلبة، ما لم يتم إسناد تلك العناصر الهامة بمشروع يتم إنجازه برضا الجميع وتوافق الجميع، والذي يؤسس لشراكة حقيقية وفعلية، على أسس المواطنة الكاملة، وصيانة حقوق الإنسان وكرامته، وتكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية ".

وتنطلقُ الباحثة في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد عبير سھام مھدي، في مقالتها "مفهوم الوحدة الوطنية وطرق تعزيزها في العراق"، من مقولة أنَّ "الوحـدة الوطنيـة لأي شـعب (هي) قاعـدة الارتكـاز للبنـاء الحضـاري والتقـدم والتطـور والتنميـة في المجالات كافـة وبغيابها يفقد الشعب المرتكزات الأساسية لأمنه واستقراره، وقدرته على احتواء الأزمات الناشئة عن الاختلافات العرقيـة والدينية والطائفية. وعلى هذا الأساس، فإنَّ قيادات الشعب الوطنية يكون هاجسها الدائم الحفاظ على الوحدة الوطنية، وسـد كـل الثغـرات والمنافـذ في جـدرانها، لكـي لا تنفـذ مـن خلالهـا ريـاح الفرقـة والتباعـد والانقسـام أو تكـون مـداخل لنفـوذ الـدول الأخـرى، والعبـث بمقـدرات الشـعب ومصـالحه وخصوصـياته".

ولم تنحصر اجتهادات الباحثين العرب في نطاق سعيهم لتحديد مفهوم الوحدة الوطنية في نطاقها السياسي، بل تجاوزوه عندما ربطوا بينها وبين فكرة "المواطنة"؛ الأمر الذي زاوج بينها وبين الفقه القانوني والاجتماعي أيضا. هذا ما أشارت إليه رقية أشمال، في بحثها الموسوم "تنمية المشاركة.. ممارسة للمواطنة الفاعلة"، عندما استعانت بالتعريف الذي ساقه أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية حسن طارق، للمواطنة، مطابقا بينها وبين مفهوم المشاركة؛ فقال: "هي إمكانية تدخل المواطن بما هو كائن تاريخي، حقوقي، قيمي، في اقتراح وصناعة القرار. وفي تدبير وتسيير كل من الشأنين المحلي والعام، كما في تقاسم ممارسة السلطة وتداولها والرقابة عليها، وذلك بمساواة في الحقوق والمسؤوليات مع المواطنين الآخرين، رجالا ونساء".

أما الشيماء عبد السلام إبراهيم -في بحثها المعنون "المواطنة والقيم الأساسية التي ترتبها في المجتمع"- فقد اختارت أن تشخص مفهوم الوحدة الوطنية، في إطار معاصر، يأخذ في عين الاعتبار انعكاسات "الأزمة التي تتعرض لها فكرة الدولة القومية التي مثلت ركيزة الفكر الليبرالي لفترة طويلة، وذلك نتيجة عدة تحولات شهدتها نهاية القرن العشرين، (ومن أهمها): "تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم، وتفجر العنف، بل والإبادة الدموية، ليس فقط في بلدان لم تنتشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث، بل أيضا في قلب العالم الغربي أو علي يد قواه الكبرى، (إضافة إلى) بروز فكرة العولمة التي تأسست على التوسع الرأسمالي العابر للحدود، وثورة الاتصالات والتكنولوجيا من ناحية، والحاجة لمراجعة المفهوم الذي قام على تصور الحدود الإقليمية للوطن والجماعة السياسية وسيادة الدولة القومية".

لكنَّ الجديد في موضوع الوحدة الوطنية في سياق علاقتها بالمواطنة، أنَّ المسالة لم تعد محصورة في الدولة القومية، بل تجاوزتها، إلى فضاء المواطنة الكونية الفاعلة. هذا ما تتناوله ترجمة دراسة "مسودة إطار عمل لمؤشرات المواطنة الفاعلة" التي أعدها بريوني هوسكينز، من مركز أبحاث التعليم المستمر -الإدارة العامة لمركز الأبحاث المشترك بالمفوضية الأوربية، ونشرت في 25 مارس 2014، التي تشير إلى أنَّ "تطور مفهوم المواطنة نحو المواطنة الكونية، (يتم) عندمــا تتوافــر جملــة مــن القيــم لــدى المواطــن والتــي تــدلّ علــى قبــول الآخــر والانفتـاح علـى الغيـر وعندمـا يهتـم ويشـارك بالشـأن العام الدولـي ولا تقتصر اهتماماتـه وأنشـطته علـى المسـائل الوطنيـة وحـدود دولتـه الجغرافيـة، وعندمـا يؤمـن بـأن القيـم إنسـانية يقـع إثراءهـا بخصوصيـات كل بلـد الثقافيـة والدينيـة والاقتصادية والاجتماعية، فــإن الفــرد يتمتّع بمواطنتــه الكونيــة؛ وذلــك مــن خـلال الاعتراف بوجود ثقافات مختلفة". ويتحقق كل ذلك عندما، كما تقول الدراسة، تترسخ القيم التالية:

- احترام حق الغير وحريته.

- الاعتراف بوجود ديانات مختلفة.

- الاهتمام بالشؤون الدولية.

- المشاركة في تشجيع السلام الدولي.

- المشاركة في إدارة الصراعات بطريقة سلمية تنبذ العنف.

وتبقى في نهاية المطاف مسألة في غاية الأهمية، ذات علاقة مباشرة بمسألة الوحدة الوطنية، وعلاقة التأثير المتبادل بينها وبين ما أصبح يعرف بالمواطنة الصالحة، حيث لم تعد "المواطنة الإيجابية" -كما يشخصها النقابي والناشط الجزائري في مجال حقوق الإنسان محمد بو عمريران- "تقتصر على مجرد دراية المواطن بحقوقه وواجباته فقط، ولكن حرصه على ممارستها من خلال شخصية مستقلة قـادرة على حسم الأمور لصالح الوطن".

وفي الختام، لا بد للعودة لما جاء في الكتاب الحكيم في قوله تعالى: "وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال:46).

تعليق عبر الفيس بوك