ماذا بقي من أطروحات فوكوياما وهنتجتون؟

  

عبدالله العليَّان

 عندما أصْدَر فرانسيس فوكوياما كتابه ذائع الصيت "نهاية التاريخ وخاتمة البشر"، في نهاية العقد الماضي، قال ما خلاصته: إنَّ التاريخ قد أُغلق تمامًا أمام الأيدلوجيات المغايرة للرأسمالية الغربية. لكنَّ البروفيسور صموئيل هنتجتون ناقضَ زميله في هذه الأطروحة، وأصدر بعد هذه الأطروحة الشهيرة المثيرة للجدل "صراع الحضارات"؛ قال فيها إنَّ الصراع المقبل سيكون صراعَ حضارات، وتنبأ بأنَّ القوى الصاعدة -والتي ستشكل خطرا على الغرب- ستكون من التحالف بين الحضارة الإسلامية والكونفوسشية! وهذا معناه -كما يُعبِّر هنتجتون- أنَّ التاريخ لن يتوقف عند الديمقراطية الليبرالية، بل سيبدأ من جديد في صراع آخر ليس أيديولوجيا هذه المرة كما كان سابقا، بل سيكون بين حضارات وهويات وثقافات.

 

وساد الهلع والاعتراض على نظرية هنتجتون في الأوساط العالمية والأكاديمية على وجه الخصوص، وجاءت مئات الردود على هذه المقولة الخطيرة، واستغربت الأوساط الأكاديمية من تزاحم الأطروحات ومناقضة بعضها للبعض، وكلها صادرة عن مراكز بحثية ومؤسسات صناعة القرار السياسي في الولايات المتحدة.

 فهل تُريد هذه المؤسسات والمراكز البحثية أنْ تنبِّه الغرب لصعود بعض القوى في القرن القادم وعدم الاستهانة بقدراتها، أم أنَّ ذلك مجرد افتراضات وتوجسات من المتغيرات التي قد تطرأ على العالم، وهو ما نتج عنه سقوط الاتحاد السوفييتي (سابقا) والمعسكر الاشتراكي عموما؟

 لكنَّ الأغرب أن مقولة "نهاية التاريخ" ومقولة "صراع الحضارات" تتناقضان تماما مع مصطلح "العولمة" إلى حدِّ التنافر؛ فالديمقراطية الليبرالية التي طرحها فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" تتقاطع مع مفهوم العولمة؛ حيث إنَّ الأخيرة لا تعترف بالخصوصيات والهويات للشعوب وتطبق مفاهيمها قسرا شاء الآخرون أم أبوا. أمَّا مفهوم التصادم والمناطحة بين الحضارات التي وضعها صمويل هنتجتون، فإنه يخالف مصطلح العولمة التي جاءت -كما يقول أنصارها- بهدف تخليص البشرية من تعاسة التطبيقات الأيديولوجية وانتشال المجتمعات من مشكلات التخلف والتراجع الحضاري والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية والتقنية.

 وهذا الطرح -الذي يُهلِّل له البعض، وتصوير العولمة بأنها جنة العصر، وأنها البديل النهائي لكل الأفكار والأيديولوجيات والصيغ الحضارية- قُصد منه -كما يقول د.سويم العزي- "خلق شعور لدى أفراد مجتمعات الجنوب بالدونية المرتبطة بثقافاتهم، يرد منه تصديع ثقة الفرد بذاته وتهيئته للقبول بما يفرض عليه".

 ولعلَّ أخطر هذه الآراء وأقواها في مناقشة ظاهرة العولمة ما طرحته الأديبة الفرنسية فيفيان فورستر -في كتابها المثير للجدل "الإرهاب الاقتصادي"- والذي أثار ضجة في أوروبا وترجم إلى 10 لغات عالمية.

 وعبَّرت عن أنَّ الهدف من إصدار هذا الكتاب هو رفع صوت الاحتجاج ضد نظام يمتص الناس حتى النخاع. وترى أنَّ هناك مؤامرة دولية عالمية يحاول رجال السياسة والاقتصاد والمال والمنظمات الدولية إخفاء الحقائق عن الناس، وأن "الإرهاب الاقتصادي" هو نتيجة للمجتمع المادي الذي يهدف إلى الربح فقط، كما أنه نتيجة للمجتمع المادي لتقنية "الأوتوماتية" و"العولمة" الاقتصادية التي تقوم على فكرة إنتاج المزيد من السلع والمنتجات بأقل عدد ممكن من اليد العاملة البشرية. وهذا بلا شك إحدى نتائج آثار عولمة الاقتصاد بصورة عالمية؛ فالانفتاح الاقتصادي بلا ضوابط أو معالم محدَّدة تحده في انطلاقته العالمية، وسوف يجلب معه الكثير من المشكلات والتحديات ليس على مستوى العالم النامي بل العالم كله، وهذا ما برز في مقولة "روبرت رايخ" عندما قال: إن "أربعة أخماس البشرية ستدفع إلى براثن الفاقة على يد قوى العولمة.. لكنَّ هذا لن يعني أن الخُمس الباقي سيزدهر كله. فقط النخبة فيه المرتبطة بديناميات العولمة ستفعل ذلك، ويجب أن نتنظر نشوء عالم ثالث داخل العالم الأول".

 والإشكال القائم الآن هو أنَّ البعض يشكك في مصداقية هذا الفضاء الاقتصادي وسياسة الأبواب المفتوحة، التي قد تعني أن هذا الفضاء لا يعرف إلا معايير المردودية المباشرة والأرباح وجني الثمار، دون الالتفات إلى الظروف الإنسانية ولا الفوارق المتباعدة بين إمكانيات الدول الاقتصادية وقدرتها للمنافسة.

 فقبل خمسة وعشرين عاما مضتْ، كان النظام الرأسمالي محصورا في أوروبا الغربية وشمال أمريكا والعديد من دول العالم الثالث، معظمها في إقليم شرق آسيا، هذه الدول تشكل 20% من عدد سكان العالم.. وهناك ثلث آخر من عدد سكان العالم كانوا تحت قبضة الحكم الاشتراكي. أما البقية ومعظمها في الدول النامية، فقد كانت تحكم عن طريق نظام ثالث خليط بين الرأسمالية والاشتراكية، كل ذلك تغير فجأة دون أن يكون هناك وقت كافٍ لاستيعاب هذه التحولات الكبيرة.

 وبحلول الثمانينات، دخلتْ معظم الأنظمة غير الرأسمالية في حالة من الإفلاس تسبَّبت فيها هذه الأنظمة نفسها، وكرد فعل طبيعي لذلك فقد لفظت هذه الدول إستراتيجيتها الاقتصادية الفاشلة وبدأت في تقليد الأنظمة الاقتصادية الليبرالية.

 ونتيجة لذلك -تقول هذه التحليلات- دخل العالم في عهد جديد ومعقد من الرأسمالية العالمية.. رأسمالية ستقدم -دون شك- فرصا عظيمة للنمو، لكنها تخلو أيضا من المخاطر والمشكلات المقلقة. لكن البعض يخالف هذه الآراء ويرى أن "الكثير من الدول التي انتفعت بالفعل من الانفتاح الاقتصادي المنظم والمسؤول استطاعت حقا أن تضيق الهوة بين الأغنياء والفقراء وتحدث نقلة نوعية في مجتمعاتها. وهذا التأييد لسياسة الانفتاح وإسهاماته الإيجابية والمهمة في عصرنا الراهن مقبول وصحيح في جوانب عديدة إذا ما تم هذا الانفتاح بآليات وبرامج منظمة ودقيقة، لكن العولمة ودخولها ميدان الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والنظم المعرفية، ظاهرة تختلف عن سياسة الانفتاح الذي يمكن أن تسيطر عليه الدول وتوجيهه الوجهة التي تلائم مصلحتها وتطبيقاتها. فالعولمة شيء مختلف عن الانفتاح الذي استفادت منه بعض الدول في السبعينيات مثل الصين وبعض دول شرق آسيا.. فهي -أي العولمة- شكل جديد ومغاير عما عرفته السياسات الاقتصادية خلال نصف قرن ويرجعها البعض إلى نموذج الرأسمالية التي طبقت في القرن التاسع عشر.

 وهناك من الأصوات المحذرة من ظاهرة العولمة المقبلة لا تقتصر على العالم النامي بل تتعداه إلى العالم المتقدم، وتطالب هذه الأصوات بإعادة التفكير في هذه السياسات القائمة على الربحية والمنافسة، والقفز على واقع وظروف اقتصاديات الدول الأخرى بالمعاهدات والاتفاقات الملزمة، خاصة العالم العربي الذي لا تزال اقتصادياته في طور النمو والتدرج المتواضع قياساً باقتصاديات الدول المتقدمة.

 والسؤال الذي يقفز إلى الأذهان -كما يقول د.الشاذلي العياري- هو: إلى أيِّ مدى يمكن للوطن العربي ككل أن يواجه تيارات العولمة الزاحفة بنجاح.. أي أن يتمكن من الاستفادة من مزاياها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والتنظيمية في كنف العدالة الاجتماعية مع الحفاظ على الذاتية العربية؟ وهذا هو التحدي الجديد؛ ذلك أنَّ الاستفادة من مزايا العولمة لا يلغي تيارها المقتحم ونموذجها المتكامل المعزز بتقنية الاتصال، ونظرية البقاء للأقوى، ومنطق المنافسة الشرسة، وتنميط البشر والمجتمعات على منطق واحد أوحد. ومن القضايا المثارة الآن في هذه الظاهرة أنها -أي العولمةـ لا تؤمن إلا بمعايير الإنسان العالمي وفق مواصفات وقيم معينة يجري غرسها وتطبيقها. وتجري في سياقات عديدة متقاطعة مع الهويات الثقافية للشعوب، فالعولمة في رأي د.علي حرب "تطال الثقافة بالذات بما هي منظومة من الرموز والقيم يخلع بواسطتها الإنسان معنى على وجودة وتجاربه ومساعيه. فالثقافات بما هي مرجعيات للدلالة وأنماط للوجود والحياة، خاصة بكل أمة أو دولة أو مجتمع، تجد نفسها عارية أمام تدفق الصور والرسائل والعلامات التي تجوب الكرة الأرضية". وهذه هي الإشكالية التي ستواجهها الإنسانية في هذا القرن، إذا ما فرضت العولمة كبديل للتنوع الثقافي وعملت على اكتساح الهوية الحضارية للشعوب. فهل ستنجح العولمة فيما عجزت عنه الأيديولوجيات في هذا القرن في فرض نماذج قسرية على الشعوب والمجتمعات؟! وهذا هو السؤال الذي تصعُب الإجابة عن راهناً.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك