قَطَعَ "سِيلفِي" قَوْلَ كُلِّ خَطِيْبٍ

سلطان بن خميس الخروصي

sultankamis@gmail.com

"سيلفي" أقام الدنيا ولم يقعدها بمواضيعه الحساسة المؤلمة، ولربما من أكثر تلك الحلقات التي طرحها المخرج "أوس الشرقي" والممثل السعودي المحترف "ناصر القصبي" وثلة من الممثلين والممثلات كانت حلقتان أصابتا في مقتل جهات تعيث خرابا ببعض بلاد العرب، وقد فتح من خلالهما "القصبي" صدره لتلقي رصاصة متربصة به في أي لحظة، فالحلقة الأولى تناولت واقع شاب تاب إلى ربهفأخرج فكره وعقله من دائرة ضيقة منحرفة إلى التدين (الموغل)والذي أوصله للسفاهة والإجرام وامتهان التكفير وتوابعه، وأما الحلقة الثانية والتي جاءت على جزءين تحت عنوان "الخليفة" ولامست واقع المجموعات الجهادية - إن صح التعبير-فدخلت إلىأعماق المشهد الاجتماعي والفكري لها وعلى وجه الخصوص ما يتصل بجماعة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والتي صُنِّفت عالميا بأنها عدو إقليمي؛ ينخر في استقرار الأمم، ويتجرَّد من الإنسانية وسماحة الأديان.

وقد كانت هاتان الحلقتانبمثابة الشعرة التي قصمت ظهر المتربصين وتُجَّار الحروب وبعض سماسرة الفتاوى لشباب غُرَّرَ بهم؛ فأضحى هؤلاء القوم يُرعدون ويبرقون "للقصبي" أن قتلك مُقدَّسٌ،ورأسك (قربان) سنُقدِّمه لرب العباد، بل وصل الحد أن منابر الدعوة والتوجيه وإرشاد الناس بأمور دينهم ووعظهم وتنويرهم بقضاياهم الاجتماعية والثقافية وسُبل التعايش الإنساني الرغيد أصبحت تُستغل لتسويق فكر حاقد ونقد هادم،فيُكفَّرُ المرء ويُوصم بالزندقة والإلِحاد والفسوق وتمييع أبناء الأمة بما لا يخدم مصالحها ولا يرضي وجه الله.

إن المُتتبِّع لحيثيات ما طرحه "القصبي" عبر نافذة "سيلفي" يشي بجزء عظيم من العبث السياسي والفكري الذي يتخبطفيه الوطن العربي على مستوى الأنظمة أو الأحزاب والجماعات المدنية، فحينما تُصرُّ الأنظمة على أنها لا تُعاني من سقم قد يتخطّفُ شبابها نحو تيارات سمجة تعود عليها وبالاً ذات حين فهي بذلك كمن يدسُّ السُمَّ في العسل؛ فحينما يكون التعليم مهترئا وتحوي بعض نصوصه على أحداث تاريخية هي محل خلاف عند المؤرخين بل ربما من كتبها ذو دوافع شخصية أو مكرها على ذلك،إلا أن بعض مناهجنا التربوية العربية (تحكُم) على الحدث التاريخي بما يناسب ومقصدها كما هي أحداث الفتنة بين سيدنا علي -كرم الله وجهه- وسيدنا معاوية - رضي الله عنه - ليصل الأمر إلى التكفير والزندقة وإذكاء حمية الجاهلية ولو بعد آلاف السنين، أليس تغليب مواقف وقرارات منحازة على أحداث مفصلية في تاريخنا الإسلامي هي أساسا محل خلاف بين المؤرخين قد تقتل روح الأمة وشبابها بين غمضة عين وانتباهتها؟، ثم ما فائدة المؤتمرات والندوات التاريخية والفقهية بين مختلف علماء المذاهب والمؤرخين وما يقدمونه من توصيات ومقترحاتباطنها التآلف والإجماع والابتعاد عن الفرقة والشقاق ما دامت بعض الأنظمة العربية تنظر لمواطنيهانظرة ولائية بين (علي) و(معاوية) وتكرِّس ذلك في مناهجها الدراسية وتستخدم مصطلحات نتنةمثل: رافضيووهابي وخوارج؟.وهنا أتذكر مشهدا أيضًا ضمن حلقات "سيلفي" حينما خرج خليجيان للاستجمام إلى أحد الدول الأوروبية وقد تعرف كل منهما على الآخر واحتسيا أقداحا متواترة من الخمر واللهو، وفجأة تذكرا أنّهما لم يفصح أي منهما للآخر باسمه، فكان اسم الأول "جعفر" والآخر "عمر" حينها تغيّرت ملامحهماوبعد ربع ساعة أصبح كل منهما يسب الآخر ويكيل الشتائم بل وصل الأمر إلى الشجار بالأيدي إلى أن استطاعت المضيفة ضبط الموقف بتفريقهما عن بعضهما البعض، وقبل نزولهما إلى وجهتهما تمّ اقتيادهما إلى التحقيق من قبل شرطة المطار فسألهما الضابط: ماسبب الشجار بينكما؟ فأجاب عمر: خلاف بسيط بيني وبين زميلي عن يزيد والحسين، فقالالضابط: إذا سنحتجزكما إلى حين إحضار الحسين ويزيد ثم نكمل التحقيق، فقال جعفر: من أين ستأتي بهما سيدي الضابط؟ فهؤلاء قد توافهم الله منذ أكثر من ألف وأربع مائة سنة، فاستغرب الضابط وقال لهما: إذا نغلق القضية ويتم تحويلكما لمستشفى الأمراض العقلية!.

لماذا تكابر بعض المؤسسات التعليمية في الوطن العربي على أنّها نقية من الدنس الذي قد يُودِي بأجيالها للدرك الأسفل من الفكر والإنتاج والإبداع؟ فمثل هذه الثغرات هي محل بيئة خصبة لتنبت فيها الحشائش السامة والنباتات الخبيثة من تُجَّارِ الدين وسماسرة الحروب الذين يستغلون هشاشة التعليم وضعف الوازع القيمي والانتماء وعدم الشعور بالمسؤولية الوطنية، والأمر لا يعدو بعيدا عن المسؤولية المنوطة بالمؤسسات الأهلية الفكرية والدينية بضرورة تنويرالأجيال ببساطة هذا الدين وسماحته وقيمه الرفيعة التي تَقلَّد بها النبي الكريم وصحابته الأوفياء، فلسنا بحاجة لبعض العلماء الذين جعلوا من أنفسهم أنبياء الله يُحِلّون ويُحرِّمون دماء الأمة بأهوائهم المتطرفة، فليس من دين الله ولم يرد في التاريخ الإسلامي والعربي أن فجَّر مسلم جموعا من المصلين لاختلاف مذهب أو عرق، ولم يرد في التاريخ أن الصحابة الكرام ولا من جاء بعدهم قد أحرقوا يهودا في معبدهم أو نصارى في كنيستهم أو مخالفين في دُورِ عبادتهم، بل عهدنا أن أبو بكر الصديق أوصى جُنده بألا يقطعوا شجرة ولا يهدموا بيتا ولا يقتلوا عجوزا ولا يقهروا شيخا ولا يتجبَّروا على طفل ولا يهلكوا رجلا إلى كانعدوا لهم وبيده السلاح.

عودة إلى "سيلفي" وما قد يليه من برامج ومسلات تُفصِّل الواقع كما هو بجرأة ومصداقيةومنهجيه هي خير وسيلة ليقرأ المواطن العربي ما بين السطور حولكواليس تُجَّارِ الحروب ومن يهدرون كرامة الأمة بثمن بخس تحت شماعة الدين والخلافة والتي هي براءة منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، لسنا بحاجة إلى تنظير وخُطبٍ بالية ومناهج عفى عليها الدهر وشرب، لسنا بحاجة إلى خِطاب سياسي أو ديني مقيت يُكفِّر هذا ويُخلِّدُ ذاك في جنات النعيم ولسان حالهم كما يقول محمود درويش: فارسٌ يُغمد في صدر أخيه خنجراً باسم الوطن.. ويصلي لينال المغفرة، لسنا بحاجة إلى تكميم أفواه المُخلصين من أبناء العرب الذين يحترِقون كمداً وألماً لهذا العبث الذي تعيشه أوطانهم، نحن بحاجة إلى المثقفين والكُتَّاب والممثلين والواعظين النافذين بين جموع شباب الأمة والمتوقدين بروح المسؤولية ليخرجوا بخطاب تنويري مُتجدد، فمن يُتابع الواقع يجد أن لهيب النعرات الطائفية والتحزبات المذهبية تلتهم أقطارا أخرى في عالمنا العربي الذي أنهكته الحروب وأثقلت كاهله الشعارات الجوفاء التي أرجعته للعصور الحجرية، "سيلفي" - من وجهة نظري - التقط صورة محترفة ووضع واقعنا العربي في المربع الصحيح.

تعليق عبر الفيس بوك