الممنوع من النشر

فؤاد أبو حجلة

تَحُولُ الرقابةُ السياسية والأمنية والمجتمعية دُوْن نشر الكثير من المواد الصحفية في المنابر الإعلامية العربية. وقد خبرتُ هذه الرقابة كمتضرِّر -بصفتي كاتبا في عدد غير قليل من الصحف، خلال ثلاثين عاما- كما مارست هذه الرقابة على متضرِّرين غيري -بصفتي الوظيفية كمدير أو رئيس للتحرير في صحف مختلفة- مما جعلني أعيش الحالتين في أوقات متباعدة.

عندما كنتُ كاتبا، كنتُ أغضب كثيرا لحجب مقالي أو شطب أجزاء منه لأسباب رقابية. وعندما امتلكت صلاحية الإجازة أو المنع، صرتُ مُتفهِّما أسبابَ ودوافع الرقيب، لكنَّني ظللتُ مُنحازا للمادة الممنوعة من النشر؛ لأنها أكثر صدقية وتعبيرا عن الواقع، وصرتُ أستلهم من المقالات والمقابلات والتحقيقات الصحفية الممنوعة من النشر بقراري ما أكتب عنه وأتبناه في مقالاتي المنشورة في صحف أخرى في الخارج. وقد جَعَلنِي ذلك أعيش حالة من الازدواجية المقيتة، لكن الحياة مليئة بالتناقض، والكاتب الصحفي لا يملك من القوة ما يمكنه من تغيير الواقع أو محو مقيداته.

ذات يوم، طلبتْ منِّي إدارة الصحيفة التي كنتُ أعمل محرِّرا فيها كتابة افتتاحية العدد لغياب رئيس التحرير في زيارة عمل خارجية. ولأنَّني من الكتاب العارفين بتفاصيل التوجُّه السياسي للحكومة، عانيت كثيرا في كتابة تلك الافتتاحية التي تُنشر على الصفحة الأولى دون اسم الكاتب؛ لأنَّها تعبِّر عن موقف الصحيفة وليس شخصًا بعينه، وعندما اقتربتُ من الاستسلام وإعلان اعتذاري عن التكليف الإداري، تذكَّرتُ مقالًا كنت كتبته وأرسلته للنشر في صحيفة عربية تصدُر في لندن، وكان المقال يُعبِّر عن موقفي المعارض لما يُسمى بـ"السلام مع إسرائيل"؛ فهداني عقلي الشيطاني إلى أن أكتب افتتاحية مناقضة تماما لما جاء في مقالي، وكتب بالفعل افتتاحية تُشيد بحكمة التسوية مع إسرائيل ونضوج العقل السياسي الذي يسلك طريق الحل السلمي، بدلا من الاحتكام إلى السلاح في فضِّ النزاعات!

بالطبع، كانت الافتتاحية مُريحة للحكومة؛ مما دعا إدارة الصحيفة إلى تكليفي بكتابة الافتتاحية بانتظام. وهذا ما حدث، وما أدَّى إلى تراجعي في الكتابة حيث تغيَّرتْ مُفرداتي وضاق خيالي ليكون على مقاس الخيال الرسمي. وأحمدُ الله كثيرا على انتهاء تلك المرحلة بفصلي من العمل نتيجة خلاف مع المدير بسبب عدم ارتدائي ربطة العنق في احتفال رسمي للصحيفة.

تنبَّهتُ في لحظةِ الفصل إلى أنَّ مقالاتي المنشورة باسمي كانت مكشوفة العنق والصدر، وأن الافتتاحيات التي كنتُ أكتبها للصحيفة كانت مخنوقة بربطة العنق الحكومية.. فتنفَّست وارتحت من الازدواجية.

أعودُ إلى الممنوع من النشر -سواء كان مقالاً أو مقابلة أو تحقيقًا صحفيًّا أو كاريكاتيرا، أو حتى صورة فوتوغرافية- لأؤكد أنَّ هذا النوع من المادة الصحفية هو ما يحتاجه القارئ العربي ويبحث عنه في صحافات العالم الخالي من الرقابة، ومن الرقاب المخنوقة بربطات العنق. واعترف أنَّه لو توافرت لي الإمكانيات الضرورية لأنشأتُ موقعا إلكترونيًّا أو صحيفة ورقية لنشر ما منعه الرقباء في الصحف العربية، وأثق في أنَّ هذا النوع من المواقع أو الصحف أكثر جاذبية وجذبا للقراء على اختلاف توجهاتهم.. ربما لأن الممنوع مرغوب.

لكنَّني وأنا أنحاز إلى الممنوع من النشر، أستذكر حالة أنقذني فيها قرار منع النشر من فضيحة مهنية تكشف تواضع ذكائي.

كنتُ مُكلفا بإجراء تحقيق صحفي عن المهن الهامشية في العاصمة؛ فذهبت إلى منطقة وسط البلد، والتقيت رجلا يعمل في تصليح "بوابير الكاز"، وآخر يعمل في تصليح الملابس الممزقة، وعامل بناء يجلس على الرصيف في انتظار مقاول يمُن عليه بتشغيله.. والتقيت في آخر رحلتي شخصًا كفيفًا يعمل في تصليح الأحذية، وقد أدهشتني قدرته على العمل وهو فاقد للنظر؛ فسألته إن كان ينوي الاستمرار في هذه المهنة أم أنه يفكر في تغييرها. فأجابني بالقول: لا، لن أستمر في تصليح الأحذية. فسألته: وما الذي ستفعله إذن؟ قال: سأعمل في تصليح الساعات.

كان الجواب الذكي ردًّا على سؤالي الغبي، وكان قرار رئيس التحرير بمنع النشر إنقاذا لسمعتي في الوسط.. ولسمعة الجريدة.

ليس كل ما يُمنع نشره مهمًّا، لكنَّه جذَّاب في كل الأحوال.

تعليق عبر الفيس بوك