أهلا بالعيد

د. مُحمَّد العريمي

كتبتُ هذا المقال قبل أربع سنوات، وأعيد نشره اليوم ربما؛ لأنَّ ما ناديت به وقتها ما زال يُلح عليَّ اليوم وغداً وبعده، وفي كل لحظة أشعر فيها بانسلال الأشياء الجميلة من بين أيدينا، تاركة المجال لمظاهر تغريب باردة مصطنعة لا طعم لها كي تحل محلها.

في هذا المقال جمعتُ لكم عدداً من المشاهد المتعلقة بمظاهر العيد، والتي ارتبطت في وجدان الكثير منا على مدى سنوات عديدة، وقد تختلف هذه المشاهد في بعض جزئياتها باختلاف مناطق ومحافظات السلطنة، في دلالة على تنوع مفردات الثقافة العمانية، ولكنها بالتأكيد تتشابه في إطارها العام في تأكيد على وحدة المجتمع العماني ثقافيًّا واجتماعيًّا.

(1)

الليلة السابقة للعيد، الأسواق مزدحمة بالمشترين والمتفرجين، الأبناء يعاونون والدهم في تجهيز اللحم الخاص بإعداد وجبة (العرسية) -وهي إحدى الوجبات العمانية المرتبطة بهذه المناسبة- والنساء مشغولات بتنظيف غرف البيت وترتيب الأثاث وتجهيز فوالة العيد، الأم في أحد أركان الحوش تعد النار التي ستطبخ عليها وجبة العيد، والأطفال يتبادلون عرض ملابسهم الجديدة وألعابهم، وكأنهم لا يطيقون الانتظار إلى الغد، بالرغم من أن ما يفصلهم عن صباح العيد هي مجرد سويعات قليلة. في هذه الليلة لا أحد ينام، ليس من الأرق، ولكنها الفرحة بقدوم العيد.

الآن أصبحت العاملة المنزلية تقوم بمعظم التجهيزات المتعلقة بالعيد، إلا في بعض المجتمعات التي ما زالت تحافظ على مثل هذه المظاهر، أو أن تأثير العولمة لم يمتد إليها بعد.

(2)

الناس مُتجمِّعوْن في إحدى ساحات القرية أو الولاية لتأدية صلاة العيد وهم يرتدون ملابسهم التقليدية الأصيلة، الرجال بدشاديشهم البيضاء الناصعة، وعماماتهم الكشميرية الزاهية، وخناجرهم التي صاغتها أياد عمانية خبيرة، وعصيهم التي يعتزون بحملها كدلالة على الرجولة، والأطفال بملابسهم التقليدية التي يحاولون من خلالها استباق الزمن كي يكونوا رجالاً يعتمد عليهم المجتمع، والنساء بزيهن المحتشم المحاك من قماش (البريسم) الموشى بخيوط الزري، تغطيه (قبعة) سوداء، وفوقها عباءة حريرية داكنة، أو (شادر طرح) أحمر جميل، ولا تجد المرأة غضاضة في لبس مجوهراتها التقليدية الأصلية كالمرية، أو البنجري، أو اللكداني أو العوص...وغيرها من مفردات الحلي العمانية، بينما "الخواتم تزين أصابعها، فاليوم هو العيد، وهو يوم الفرحة والبهجة، وهل هناك أفضل من هذا اليوم كي يكون المرء بأحسن هيئة وأفضل زينة؟!

تُرى هل ما زلنا نحرص على ارتداء هذه الملابس؟! وهل ما زالت المرأة العمانية تتذكر هذه المفردات وتحرص على التزين بها في كل عيد، أم أنها أصبحت من الماضي؟!

(3)

تعودُ من المصلى في طريقك إلى البيت، تعبثُ يداك بمؤشر الإذاعة لتنطلق منه أغنية حمدان الوطني "مبارك يا عيد مبارك"، فتسرح معها لسنوات خلت، وتتراءى أمامك مشاهد مختلفة، وذكريات متنوعة مرت عليك في الأعياد السابقة.

تفرغ من تناول وجبة العيد، ويقوم أحد أفراد العائلة بتغيير المحطة التليفزيونية باحثاً عن قناة عمان لتطل عليك صفاء أبو السعود في أغنية "العيد فرحة"، فيتدفق أمامك سيل من ذكريات أخرى، وربما تتذكر مسدسك الذي اشتريته من الهبطة بطلقاته ذات اللون الأحمر المميز، ولعبة الشرطي والحرامي...وغيرها من الذكريات.

هل ما زالت مثل هذه الأغاني الجميلة تشكل جزءاً من المشهد السنوي للعيد، والذي لا يمكن الاستغناء عنه؟!

(4)

يتحلَّق شبابُ العائلة صباح يوم العيد حول "صفرية" العرسية، والأطفال من خلفهم يترقبون المشهد، ويتقدمون لأخذ دورهم، ويبذلون كل طاقتهم لإثبات مقدرتهم على القيام بما يفعله الكبار، وسط جو من المرح العائلي، وفي ظل كلمات التشجيع أو الدعابة لهذا السلوك البريء..

ترى هل عادت العائلة الكبيرة تتجمع كما كان سابقاً، أم أن "الفوضى" الحياتية قد فرقتهم، وأصبح كل فرع منهم يحتفي بالمناسبة لوحده في جو بارد كئيب يسلب الكثير من بهجة العيد وفرحته المتمثلة في (اللمة) العائلية الجميلة؟!

(5)

مشهد الأطفال وهم يتنقلون بين بيوت الحارة طلباً للعيدية، ببراءتهم المعهودة، وبملابسهم البسيطة الزاهية التي حاكتها يد جدة حنونة، أو قدمت كشرهة من قبل جارة يناديها ذلك الطفل بلقب "أمي فلانة" عرفاناً بحنان وعطف واهتمام قدمته له تلك الجارة، ملابس لم يتكلف الأب في سبيل شرائها عناء الذهاب إلى أحد فروع محلات الملابس العالمية، ولم يسحب على المكشوف كي يستطيع تسديد قيمتها الباهظة.

هل ما زال هناك من يحرص على أن يلبس أطفاله مثل هذه الملابس التقليدية الجميلة، أم الخوف من عبارات الانتقاد المتناثرة هنا وهناك بدعوى عدم مسايرة الواقع يشكل حاجزاً عند الكثيرين؟!

(6)

أبواب مجالس البيوت مفتوحة على مصراعيها، تعطِّرها رائحة العود والدخون العمانية، ويميزها "الفوالة" التقليدية من حلوى عمانية، وفواكه منوعة، والقهوة السوداء الممزوجة بالهيل والزنجبيل، الرجال يتنقلون من بيت لآخر، يعايدون على هذا، ويطمئنون على تلك، تحيط بهم حميمية صادقة، دون تفرقة أو تمييز بين هذا أو ذاك، ثم يذهبون للسلام على أولي الأمر في دلالة على ترابط المجتمع وتعاضده والتزامه بمبادئ المواطنة الحقيقية التي نعاني نحن حالياً في غرسها لدى الجيل القادم.

كم نحتاج لتلك الحميمية كي تدفئ أوصال مجتمع بدأ البرد يعبث بأطرافه!

(7)

نساء القرية يتجمَّعن في ركن مخفي عن الأنظار لكي يمارسن فناً نسائيًّا عمانيًّا أصيلاً -سواء كان "أبو الزلف"، أو "تشح شح"، أو "المغايض"، أو "الحمبورة"...أو غيرها من الفنون العمانية الجميلة. وفي ساحة غير بعيدة عدة صفوف من الرجال تقدم لوحة جميلة من فن "الرزحة"، وهو فن الرجولة عند العمانيين، تتقدمهم السيوف والبنادق، ومن خلفهم كثير من المتفرجين من كبار السن الذين يطالعون المشهد في حسرة، ويودون لو يعودوا سنوات إلى الوراء كي يشاركوا في هذا المشهد، وعدد من الصغار الذين يحاولون تقليد الكبار ربما لجلب الانتباه، أو للفت الأنظار.

(8)

كانت تلك أجزاء من مشاهد كثيرة ارتبطت بأعيادنا، وعايشها كثيرٌ منا، وما زلنا نحنﱡ إليها بعد أن عبثتْ يدُّ ما يدعى بالتمدن والعصرنة والتطور بكثير من ملامحها، وأصبحنا ننساق وراء مظاهر غريبة مستوردة، لا يمت كثيرٌ منها بصلة إلى مجتمعنا وثقافته الضاربة في جذور التاريخ.

بإمكاننا أن نستمتع بمناسباتنا دون الحاجة إلى البذخ الزائد والتنافس غير المرغوب، والتغيير المتعمَّد في المظاهر الجميلة المرتبطة بها، لأسباب واهية ترتبط بخواء ثقافي قادنا إلى الاعتقاد بأنَّ التمدن والتحضر هو في الابتعاد عن الماضي بكل بساطته وجماله وعفويته.

تعليق عبر الفيس بوك