الصحافة الاقتصاديَّة العربيَّة.. الإشكالات والمعالجات

ناصر أبو عون

تعيشُ الصحافة العربية -من المحيط إلى الخليج- أزمة وجودية، وفي القلب منها الصحافة الاقتصادية، والبحث عن حلول ناجعة يبدأ من طرح الأسئلة لتشخيص المشكلة؛ لذا يحق لنا أن نسأل: هل لدينا صحافة عربية متخصصة؟ هل ما نقرأه في المطبوعات الورقية المسماة بين هِلَالين بـ(الاقتصادية) يدخل في تصنيف الصحافة الاقتصادية الاحترافية؟ أم أنها مجرد "نشرات علاقات عامة" يمكن أن نطلق عليها تجاوزًا "خدمات صحفية أو خدمات إعلانية"؟! هل لدينا صحيفة اقتصادية تماثل صحيفة (journal of political economy) في عنايتها بالاقتصاد السياسي، وتغطي الاقتصاد من الناحية النظرية والتجريبية؟ متى يكون لدينا مجلة أكاديمية مثل: (quarterly journal of economics)، تشبه ما تصدره مطبعة جامعة أكسفورد وتغطي جميع نقاط الاقتصاد حتى الاقتصاد الكلي التجريبي والنظري، وتحقق المركز الثاني بين مجلات الاقتصاد؟ كيف يمكننا عربيًا إنتاج صحيفة اقتصادية في قامة (review of economic studies) التي تستعرض الدراسات الاقتصادية من قبل مجموعة من الاقتصاديين، والتي تعد من بين أفضل 5 جرائد اقتصادية في العالم؟

الإشكالية -عربيا- تتمثل في ندرة "الصحفي الاقتصادي" الآتي إلى ميدان الصحافة من (مرجعية اقتصادية وأكاديمية)، وهو ما توفر لدى الغربيين. والآن يشتغلون على معالجة الإشكالية فـ"عجز المعلومات" بوصفها المتهم الرئيسي وراء تباطؤ عملية التحديث والتطوير فضلاً عن "إشكالية عدم تحصيل على المعلومات" في حينها و"الأضرار الناجمة عن تلقي الصحفي الاقتصادي معلومات خاطئة"، ووضعوا أيديهم على الحلقة المفقودة ووجدوها راجعة إلى "طريقة تفاعل الصحافة الاقتصادية مع 3 مصادر رئيسة تستقي منها المعلومات؛ ألا وهي: الحكومة ورجال الاقتصاد ودوائر الأعمال".

وقد تتحقَّق طفرة في صحافتنا الاقتصادية إذا ما قمنا بمراجعة السياسية التحريرية التي تنطلق من الصحف في تناول القضايا الاقتصادية -إذا كانت هناك سياسة تحريرية أساسًا- ومنح الجمهور مساحات تحريرية كافية يعبر فيها عن قضاياه الاقتصادية التي يواجهها -وفق توصية د.عبدالله التويم- الذي دَعَا كبار موظفي القطاع الحكومي إلى "تجاوز مرحلة الحساسية الشديدة" التي أدَّت إلى حجب المعلومات عن الصحفيين ورفع القيود الإدارية التي تعوق تدفق المعلومات بانسياب وحرية. ولن ننجح في تخطي هذه العقبة في ظل غياب "الشفافية، وندرة الصحفيين المتخصصين وضعف المضمون التحليلي".

ولبيان الحقيقة، فإننا في حاجة إلى بحث علمي رصين يناقش القضية من جميع جوانبها، ويضع أجوبة شافية للتساؤلات التالية:

1- هل توجد علاقة ذات دالة إحصائيا بين استخدام الصحافة الاقتصادية العربية في الترويج للاستثمار في الاقتصادات الوطنية العربية بجميع فروعها وارتفاع نسبة الاستثمارات؟

2- هل توجد علاقة ذات دالة إحصائيا بين المستوي التعليمي والتدريبي للصحفيين الاقتصاديين وزيادة نسبة نشر التقارير الاقتصادية والتغطية الإخبارية الرصينة داخل جميع قطاعات الاقتصادات الوطنية العربية؟

3- هل توجد علاقة ذات دالة إحصائيا بين ارتفاع نسبة الإيرادات في جميع قطاعات الاقتصاد العربي واستخدام الصحفيين الاقتصاديين لتكنولوجيا الصحافة والمعلومات ووسائل النشر الحديثة؟

ومع تزايد الدور الذي تلعبه الفضائيات من حيث جاذبية الصورة المرئية وما تفرضه من معايير التشويق لدى عرض العديد من التحقيقات والتقارير الاقتصادية الجادة كان من المتعين على صحافتنا الاقتصادية أن تجتذب مجموعة من المحررين المدربين بشكل خاص والآتين من خلفية أكاديمية في تخصصات (الاقتصاد وإدارة الأعمال والتسويق، دراسات الجدوى، والمتخصصين في وضع الخطط والموازنات.. إلخ). وإذا كنا جادين في مناقشة ووضع حلول تطبيقية ناجعة، ولدينا رغبة في انتشال صحافتنا الاقتصادية من رقدتها الطويلة ونومتها المماثلة لنومة أهل الكهف، ونفض الغبار عنها، والسير بها قدما نحو آفاق أوسع من التخصصية والاحترافية، يتوجب علينا وضع سياسات إصلاحية طويلة المدى تنطلق من عدة محاور أهمها:

أولا: محاولة تحديد دور الصحافة الاقتصادية في مشاريع التنمية المستدامة، ودعم الاستثمار مع تذليل المشكلات المعيقة لأداء رسالتها سواء داخل المؤسسات الصحفية أو خارجها.

ثانيا: دراسة نتائج وآثار دعم الصحافة الاقتصادية لمشاريع التنمية والاستثمار في قطاعات الاقتصاد الوطني، ومحاولة تطويرها ودعمها.

ثالثا: إبراز الجانب الإيجابي للصحافة الاقتصادية الحديثة ودورها في دعم مجالات الاستثمار والحفاظ على البيئة الاستثمارية.

رابعًا: تثمين الدور الملقى على عاتق الصحفيين في تغطية الابداع الذي يعد محركا رئيسيا للتقدم الاقتصادي والنشاط الرئيسي للعديد من الصناعات الأخرى، ويظهر ذلك بوضوح من خلال قدرته على دفع الاشخاص والمؤسسات إلى تخيل منتجات جديدة أو طرق جديدة لصنع الأشياء وتحويل الخيال إلى حقيقة من خلال صنع منتجات وخدمات جديدة بهدف خدمة المستهلكين.

خامسًا: إبراز المعيقات التي تواجه الصحافة الاقتصادية وآثارها على العاملين والمجتمع وفي القلب إعداد صحفي اقتصادي متخصص.

وإلى أن يتم حل الإشكالات الكبرى المعيقة لبناء صحافة اقتصادية عربية متخصصة ورصينة وعالية الانقرائية على مستوى جماهيري أكبر ورقعة أكاديمية واسعة -وهي مسألة تتعلق بالسياسات التحريرية والخطط الاقتصادية الكبرى التي تعنى بها الدول والحكومات ومصادر صنع القرار- يستوجب الأمر من المؤسسات الصحفية ونقابات الصحافة والمنابر القلمية وضع برامج تدريبية للصحفيين تساهم في تعزيز دور الصحافة الاقتصادية تتضمن العناصر التالية:

أ- رفع المعايير المهنية والوعي القانوني بين الصحفيين بصفة خاصة والمشتغلين بالصحافة الاقتصادية على وجه الخصوص.

ب- تدعيم جهود وتأثير المؤسسات الإعلامية إداريا وتنظيميا وبناء كوادر تتمتع بالخبرة الصحفية والمرجعية الاقتصادية أكاديميا وثقافيا.

ج- دعم نقابات الصحافة والجمعيات المعنية بالإعلام، والتي تتبنى تدريب ودعم الصحفيين الاقتصاديين بوجه خاص.

د- بناء تحالفات وطنية بين الأطراف المشاركة في البرنامج لتطوير آليات فعالة للعمل على مزيد من الدور الفعال والمؤثر للصحافة الاقتصادية في دعم العملية الاقتصادية وتنمية القطاع الاقتصادي بوجه عام وقطاع النقل بوجه خاص.

هـ- بناء منصات إقليمية للنقاش والحوار وتبادل الآراء والخبرات ودعم الصحفيين والخبراء الاقتصاديين في العالم العربي.

و- تكوين شراكات قوية بين المؤسسات الاقتصادية والإعلامية الوطنية الحكومية والخاصة.

أما على المستوى الاحترافي والأداء المهاري، والتكوين المهني الرصين لبنية الصحافة الاقتصادية والعاملين في رواقها فقد انتهت رسالة جامعية متخصصة إلى مجموعة من التوصيات للباحث السوداني (صديق الصادق الزين 2013) -يُمكن وضعها في إطار برنامج عمل تطبيقي والاشتغال عليها كأهداف محورية داخل المؤسسات الصحفية لتطبيقها واقعيا.. ومن أهم ما جاء فيها:

1- على الصحافة الاقتصادية العربية أن تهتم بالتوازن في معالجة القضايا الاقتصادية، وفق منظور شامل، ينطلق من أن الشأن الاقتصادي أصبح يشكل محور اهتمام كل فئات المجتمع، وله تأثيرات مباشرة على حياة الناس اليومية.

2- أن تهتم بالتوسع في استخدام الفنون الصحفية التحليلية والتفسيرية مثل المقال والتقرير والتحقيق الصحفي من أجل المعالجة المعمقة للقضايا الاقتصادية، وبما يلبي احتياجات المتخصصين وعامة القراء والمساهمة في تقديم الحلول، وتبصير الرأي العام.

3- أن يتحرر الصحفيون من الرقابة الذاتية السلبية، وتناول القضايا الاقتصادية بجرأة منضبطة بأخلاق ومعايير المهنة.

4- تقليص المساحة الإعلانية على الصفحة الأولي لإتاحة الفرصة لإبراز أكبر قدر من المضمون، وتثبيت شخصية الصفحة الأولى.

5- مطالبة المسؤولين بالمؤسسات المالية والاقتصادية بفتح الباب أمام الصحفيين الاقتصاديين للوصول إلى المعلومة الاقتصادية الصحيحة دون قيود.

6- بناء شراكة بين الصحافة والمؤسسات الاقتصادية الرسمية والخاصة، تحقق المصلحة المشتركة، وتسهم في تكوين رأي عام إيجابي يسهم في معالجة المشكلات الاقتصادية، ويخدم المصلحة العامة.

7- تطوير المواقع الإلكترونية للصحافة الاقتصادية العربية لتكون أكثر تفاعلية، وأن تكون آنية في سرعة عرض المعلومة الاقتصادية ومواكبة الحدث الاقتصادي محلياً وعالمياً.

8- استقطاب الكوادر الصحفية المؤهلة في الجوانب التحليلية للاقتصاد، وحركة الأسواق المالية، واستكتاب المتخصصين الماليين والاقتصاديين.

9- تأسيس مراكز أبحاث اقتصادية تابعة للصحف تكون قادرة على المساهمة في تمكين الصحافة الاقتصادية العربية من تقديم مضمون رفيع المستوى يعالج القضايا الاقتصادية بمهنية عالية. والاهتمام بدراسة وقياس الرأي العام الاقتصادي.

10- تعزيز التعاون مع الصحافة الأجنبية للاستفادة من إمكانياتها في تطوير المضمون الصحفي بالتوسع في الترجمات، وتدريب الصحفيين الاقتصاديين.

11- الاهتمام بإجراء البحوث والدراسات العلمية التي تعالج مشكلات الصحافة الاقتصادية، وتسهم في تطويرها شكلاً ومضموناً.

Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك