يوميات دراجة نارية

ناصر محمد

في النصف الأول من القرن العشرين شهدت القارة الأوروبية صراعا فكريا حادا بين داعية "التاريخانية" الأمريكي "ليو شتراوس" وعدوها اللدود النمساوي "كارل بوبر"، الأول يقر بأن التاريخ له قبضته الحديدية في صنع الحدث، بينما ينفي الثاني هذا الزعم مبينا أن هذا الرأي سوف يقضي على الحرية والإرادة الإنسانية!

إن الناظر لأمريكا اللاتينية في ذلك الوقت، وما ترزح فيه من فقر واضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية، وتدخل أمريكا في شؤونها الاقتصادية والسياسية، وكذلك تلك التحولات الديموغرافية المعقدة بين الطبقات والاختلاط بين الأعراق: الأصلية والوافدة، سوف لن يدخر الوقت ليؤيد فكرة التاريخانية، خاصة أنّ العالم بأسره كان بين فكي الاشتراكية والرأسمالية!

من هذه الزاوية اليائسة كان للإرادة الإنسانية وجهة نظرها اللا تاريخانية ضد العبء التاريخي المثقل بالجهل والفقر، ففي بيونس أيريس ولد أيقونة الثورة العالمية "ارنستو غيفارا دي لاسيرنا" عام 1928م، هذا الوميض الثوري الذي تحول إلى أسطورة منذ مقتله في بوليفيا عام 1967م، قد شغل العالم به طيلة النصف الثاني من القرن الماضي.

وبدون استعراض ما فعله أرنستو في سنواته الثورية في كوبا والكونغو وبوليفيا، استغل هذا العمود للتحدث عن "يوميات دراجة نارية" التي كتبها في عام 1952م بمناسبة رحلته لأمريكا اللاتينية بالدراجة النارية (التي سميت بالجبارة الثانية) مع صديقه الطبيب "ألبرتو غرانادو"، هذه الرحلة التي بدأت بقرار مفاجئ في ديسمبر 1951 من بيونس إيريس منتهية إلى ميامي بالولايات المتحدة، مرورا بتشيلي وبيرو وكولومبيا وفنزويلا، وانتهت في أغسطس 1952م.

تتميز كتابة أرنستو بالعفوية والدقة في الوصف والشاعرية، وعلى الرغم من إصابته بنوبات الربو المتعددة أثناء الرحلة التي لا يوقفها سوى حقنات الأدرينالين باهظة الثمن، إلا أن حسه اللطيف وأخلاقه الدمثة لم تتغير، ولم تتعرض رؤيته للأشياء لأي تشوه بقدر ما كان يسقط عليها تلك الروح المفعمة بالحياة. وربما تعود نشوء رغبة غيفارا لاحقًا في الانخراط بالعمل الثوري إلى هذه الرحلة التي تراوحت بين الاستلاب لسحر الطبيعة والإحباط لحال القاطنين بهذه القارة. ولم يكن غيفارا غافلا عن الأحداث التي تعج بها أمريكا اللاتينية في تلك الفترة، كما أنه لم يكن جاهلاً بتاريخ هذه القارة منذ الاستعمار الإسباني والعنف الذي واجهته الشعوب الأصلية من الهنود ومحاولة طمس آثارها وتراثها بالمدنية الرأسمالية الفجة.

كان الشراب المفضل للصديقين أثناء الرحلة هو شراب " المتّه" وهو منتشر الآن في بلاد الشام بكثرة، وللصديقين مغامراتهما الطريفة بين الحدود وتعطل دراجتهما النارية واضطرارهما إلى استخدام وسائل نقل أخرى، ومواجهتهم لظروف عصيبة مثل قلة النقود وتوعك حالة غيفارا الصحية بسبب الربو، ولغيفارا قراءاته الأدبية في الرحلة مثل "نيرودا" و"غارسيا لوركا"، وله رأيه في بعض الأفلام السينمائية مثل فيلم "الثأر" لمخرجه روسيليني ووصفه له بالرديء! .كان المرض المنتشر في تلك الفترة هو "الجذام"، وانتقد غيفارا - بصفته طبيبًا- حال المستشفيات هناك في عدم توفر الأدوات الضرورية للتعاطي مع المرضى. واستعرض أحوال عمال المناجم البائسة في تشيلي وسقوطهم ضحايا في الاضطرابات السياسية بين الأحزاب المحافظة الموالية لأمريكا والأحزاب الشيوعية، وأظهر غيفارا إلمامه التفصيلي بكيفية استخراج النحاس من المناجم وكأنّه أحد عمالها. كما التقطت عدسة غيفارا الجميلة بعض الانطباعات عن "كوزكو" المسماة "سرة العالم" ووصف تلك المباني الأثرية التي كانت في زمنه تحفة معمارية إلى أن احتلتها الوفود الأوروبية، ويصف ببراعة ذلك المعمار الهجين الممتزج بحضارة الأنكا وأوروبا المسيحية، ويقدم عرضا مؤلما عن حال الهنود الاجتماعي والصحي والتعليمي، وكيف أنهم ضائعون بين تاريخ منسي وحاضر يعريهم من أصولهم.

كان أرنستو يؤمن ألا حدود بين دول أمريكا اللاتينية، وذلك حين يقول في يومياته بمناسبة احتفال بعيد ميلاده: "كما أود أن أقول شيئا آخر لا علاقة له بموضوع هذا النخب. بالرغم من عدم أهميتنا يعني أننا لا نقدر أن نكون متحدثين باسم مثل هذه القضية النبيلة نعتقد وبعد هذه الرحلة أكثر من أي وقت مضى أن تقسيم أمريكا اللاتينية إلى أمم غير مستقرة ووهمية هو خيالي تماما، نحن نشكل عرقا هجينا واحدا يحمل من المكسيك إلى مضايق ماجلان خواص اثنوجرافية فذة متشابهة. وعليه، في محاولة لتخليص نفسي من ثقل الإقليمية ضيقة التفكير، اقترح شرب نخب بيرو وفي سبيل أمريكا اللاتينية".

وفي نهاية اليوميات، يحكي غيفارا عن لقائه بمجهول (لم يذكر اسمه) وكان في ذلك الحوار نوع من التنبؤ بمصير غيفارا وذلك حين يقول محاوره: "سأموت وأنا على علم أن تضحيتي تنبع فقط من المرونة التي ترمز إلى حضارتنا الفاسدة المنهارة. كما أعلم - وهذا لن يغير مجرى التاريخ أو نظرتك لي - إنك ستموت وقبضتك مطبقة وفكك متوتر، صورة مصغرة للكرة والنضال، لأنك لست رمزا (مثالا يفتقر إلى الحياة) بل عضوا أصيلا في مجتمع سيدمر روح قفير النحل ويتكلم عبر فمك ويحرض أفعالك. أنت مفيد مثلي، لكنك لست مدركا كم مفيد إسهامك في المجتمع الذي يضحي بك". ليكتب غيفارا بعد ذلك: "لكن بالرغم من كلماته علمت الآن،، علمت أنه حين تشق الروح الهادية العظيمة الإنسانية إلى شطرين متصارعين، سأكون إلى جانب الشعب. أعلم هذا، أراه مطبوعًا في سماء الليل، وأنا، المدعي الاصطفائي للمذهب والمحلل النفسي للعقيدة، الذي يعوي كشخص مسكون، سأهاجم المتاريس أو الخنادق، وسأحمل سلاحي الملطخ بالدم، سأذبح، أنا الذاوي في السخط، أي عدو يقع بين يدي. أرى، كما لو أنّ تعبا هائلا يكبح هذا الشعور غير السوي بالقوة. أرى نفسي قربانا في الثورة الحقيقية، المعادل العظيم لإرادة الفرد، المقر باقتراف أفدح الأخطاء سابقًا. أشعر أن أنفي يتسع ليستنشق الرائحة اللاذعة بالبارود والدم وموت العدو. أفعم جسدي بعزم فولاذي وأعد نفسي للمعركة لتكون فضاء مقدسا يستطيع من خلال العواء الوحشي لانتصار البروليتاريا أن يدوي بطاقة جديدة وأمل جديد".

كثير من الانتقادات وجهت لأرنستو غيفارا في حياته السياسية بعد انتصار الثورة الكوبية، وخاصة فيما يتعلق بالعدالة الثورية التي طبّقها على مئات من معاوني الحكم السابق لكوبا وذلك بإعدامهم، كما انتُقِد أيضًا بشأن موقفه المتصلب من أزمة الصواريخ الكوبية بخليج الخنازير عام 1962م، ورغبته بتصعيد النزاع السوفييتي - الأمريكي حتى ولو أدى ذلك إلى محو القارتين بأسرهما بالصواريخ النووية.

بشكل عام، لطالما أفلت غيفارا من قبضة التاريخ التي ترغب أن تضعه حيث ينتمي في الهامش، كما أفلت أيضا من البيروقراطية الحكومية الضيقة التي أرادها له "فيدل كاسترو" عندما تركها له مستمرا في عمله الثوري في أصقاع العالم. إنه هذا الإنسان الذي ثار على الظلم بقلب صادق ورومانسي ومؤمن بقضيته لدرجة أن "جمال عبد الناصر" وصفه بعد مقابلته له بأنّه "انتحاري".

تعليق عبر الفيس بوك