عندما احترق بيت القس في مطرح

صالح البلوشي

أثارت التجربة العمانية في التعايش المذهبي والديني اهتمام الجميع في الشرق والغرب، وقد سُجلت أفلام وثائقية كثيرة، ودُبّجتْ مقالات ودراسات أكثر حول هذه التجربة وتاريخها، إضافة إلى آراء سُجّلت من قبل كثير من رجال الفكر والسياسة والباحثين ونُشرت في الصحف والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها. ومن خلال تجاربي الشخصية فقد التقيت مع كثير من الشخصيات الفكرية والدينية التي أبدت إعجابها الشديد بالتجربة العمانية، وقد تمنت أن تكون -هذه التجربة- موجودة في بقية الأقطار العربية والإسلامية، ومن هؤلاء القس آلفريد صموئيل (مصري)، الذي كان يشغل وظيفة: راعي الكنيسة البروتستانتية بدارسيت بمسقط منذ بدايات سبعينيات القرن المنصرم وحتى مغادرته السلطنة سنة 2002 (تقريباً). وقد تعرفت على صموئيل بمحض الصدفة سنة 2001، وكانت أجواء العلاقة بين الإسلام والغرب ساخنة في تلك الفترة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك اعتبرتُ اللقاء فرصة لمعرفة رأي مسيحيي الشرق في هذه الأحداث، وتأثيرها على مستقبل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.

يتميز صموئيل بثقافة موسوعية في شتى الفنون والعلوم، واطلاع واسع على التراث العربي والإسلامي، وكان يمتلك مكتبة كبيرة زاخرة بأمهات الكتب التراثية والحديثة، وأذكر أنه أطلعني على كتاب ضخم عن شعراء النصرانية العرب ويقع في ثلاثة أجزاء ضخمة، إضافة إلى كتب تاريخية ولاهوتية وأدبية وعلمية أخرى مهمة، ولذا استمتعت كثيرا بالساعات التي قضيتها في الحديث معه، فقد كان شائقا جدا ولا يُمل. عندما زرته في مكتبه بالكنيسة أول مرة صارحني: أنه لا يرغب في الحديث في القضايا الخلافية بين الإسلام والمسيحية؛ وعندما سألته عن السبب، أجاب: بأنّه يعيش في عمان منذ بداية النهضة المباركة في أوائل السبعينيات، وخلال هذه المدة الطويلة تَعَرّفَ إلى مئات العمانيين من مذاهب مختلفة، ولفت نظره تجنب العمانيين الحديث في القضايا الخلافية بين المذاهب الإسلامية، ولذلك لا تجد أي تعصب مذهبي بينهم، وأضاف: أنه لاحظ أيضاً أنهم يعملون في صمت من أجل نهضة بلدهم والتفاني في خدمته، والتضحية بالروح من أجله، وأما المذاهب والأديان فإنهم ينظرون إليها باعتبارها علاقة روحية بين الفرد وربه؛ واحترامًا لهذه الثقافة العمانية الأصيلة فإنه لا يرغب بالحديث في القضايا الخلافية، وإنما يدعو دائما إلى التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة، التعايش الذي يقوم على آفاق التعاون وتبادل الآراء وتشجيع لغة الحوار والتفاهم وفهم الآخر. وقد بادلت القس هذا الشعور، وأوضحت له: أن العالم اليوم بأمس الحاجة إلى ثقافة مشتركة ترفض العنف وتدعو إلى التعايش بين الشعوب والأديان المختلفة، وأن التجربة العمانية التي تمتد منذ مئات السنين تثبت أنه بإمكان الشعوب أن تتعايش فيما بينها في إطار الاجتماع والتوافق على الهوية الوطنية، والمصير المشترك وترك الخلافات المذهبية والدينية جانباً.

وتأكيدًا على كلامه تحدث معي صموئيل عن قصة حدثت معه في سبعينيات القرن المنصرم بولاية مطرح، فقد نشب حريق هائل في بيته نتيجة ماس كهربائي، فاندفع سكان الحي جميعًا وكانوا من مذاهب مختلفة سنة وإباضية وشيعة إلى البيت من أجل إطفاء النار ومساعدة أهل البيت على الخروج بسلام من المنزل، وقال: إنّ سكان المنطقة كانوا يعرفون جميعًا أنّه رجل مسيحي بل يشغل مرتبة دينية كنسية بينهم؛ ولكن اختلاف الديانة لم يمنعهم من الإسراع إلى مساعدته وإنقاذه وعائلته من النار، وأضاف صموئيل: لو كان أهل المذاهب والأديان في أنحاء المعمورة يتعاملون بينهم وفق الثقافة العمانية؛ لكنا نعيش في عالم خالٍ من الحروب والفتن الطائفية. التقيت بصموئيل مجددا عدة مرات، ثم فوجئت أنه غادر السلطنة، فتأسفت على ذلك؛ فالرجل كان يملك فكرا متسامحا وثقافة موسوعية كبيرة.

تذكرت هذا اللقاء مع القس آلفريد صموئيل وأنا أتابع المشهد السياسي العربي اليوم، الذي بات مهددا بأكمله من كارثة تاريخية اسمها (داعش)، والمؤسف أن رجال السياسة والفكر والثقافة في العالم العربي يعلمون تمامًا كيف جاء هذا التنظيم المتطرف، والمنظومة المعرفية التي ينتمي إليها، ومع ذلك لم تتصدَ أية مؤسسة فكرية أو مركز دراسات استراتيجية حتى الآن لمناقشة أفكار هذا التنظيم ونقدها، بل حتى في الجانب الديني والفقهي؛ هناك غياب كامل للردود على الأصول الفكرية لهذا التنظيم، بل هناك من رجال الدين من يصرح علناً بأن ما تقوم به داعش موافق للشريعة والفقه الإسلامي، والملاحظة الوحيدة عليهم هو البغي على باقي التنظيمات الإسلامية، وقد عَبّرَ الشيخ محمد النجيمي عن ذلك في تغريدة له على تويتر بوصفهم إنهم "إخواننا بغوا علينا"، بل إن هناك من رجال الدين من فضلهم على أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى ودعا إلى الحوار معهم، وهذه الأسباب -وغيرها- تُفسّر سبب لجوء كثير من الشباب العربي والمسلم للالتحاق بهذا التنظيم.

بقي القول: إن المرحلة القادمة تتطلب المزيد من العمل الجاد من أجل المحافظة على القيم العمانية الأصيلة؛ التي تتمثل في الوحدة الوطنية والتعايش المشترك، فلم يعد أحد بمنأى عن الخطر الأصولي الذي بات يهدد الجميع بدون استثناء، والمقالات وخطب الجمعة والمحاضرات التثقيفية لم تعد تكفي، وإنما يجب إيجاد استراتيجية شاملة ومنظومة وطنية من أجل ترسيخ قيم العدالة والمساواة والمواطنة في المجتمع، فالوطن فوق الجميع، حفظ الله عماننا الغالية وسلطاننا المفدى -حفظه الله وأمد في عمره- من كل سوء.

تعليق عبر الفيس بوك