"ارجعوا إلى الله"

سلطان بن خميس الخروصي

تداول المواطنون العربفي الفترة الأخيرة مقطع فيديو تضمنت مادته شابين توقَّرا بهيبة اللحية وأسدلا على جسديهما لامَّة الحرب وتسوَّر على يد أحدهما رشاش والآخر يحاول أن يدخل في الصندوق (آر بي جي) وتحلَّقت على النافذة امرأة سورية حلبية طاعنة في السن وقد بدت تكيل لهما النصائح والمواعظ وتردد بصورة مستمرة "ارجعوا إلى الله"، كانت ترشف على حناجرهم الضمانة شذرا من إشراقات تاريخ النبي العربي الكريم، وتغدق على عقولهم المُتصلِّفة أنوارا من هدي تاريخنا الإسلامي المشرق، كانت تُذكِّرهم أن الدين يُسر "ولا يُشادُّ الدين أحد إلا غلبه" تنوح عليهم وتناديهم "يا أولادي" لن ينفعكم عند الله أحد فيما أثخنتموه من دماء المظلومين والثكالى والأيتام والأرامل،توشَّحت السخرية واللامبالاة على جبينهما وطفقا يخصفان على جرائهمابأنهم جنود الله الذين أوكل لهم (الخلافة) في الأرضوكأن لسان حالهمايُغرِّد:

اجعــل كــلام النــاس كالخِنَّاس ** إن لم يُحلِّق في السماء فـهو يـُـداس

يبدو أن مشروع تمكين (الخلافة الإسلامية) أصبح ثقافة أيديولوجية رائجة في الوطن العربي بل تخطى الأمر ليأخذ طابعا دوليا في ربوع العالم الإسلامي، ومما لا يختلف عليه اثنان أن الممارسات "التنكيلية" والحِراك العسكري والخطط الاستراتيجية المؤلمة للجماعات المسلحة ضد الجيوش النظامية هو أمر غير مقبول لدى جموع المسلمين فذلك ينافي سماحة الدين الشريف والأطر الإنسانية النبيلة التي جعلها الله رحمة للناس، إلا أن المتتبع لتأصيل الفكر المتشدد حول إحياء الخلافة الإسلامية (الخلافة العثمانية) بعد الإعلان رسميا عن انتهائها بيد "أتاتورك" في 1924م، وما تلا تلك المرحلة من تبعات تاريخية وأزمات سياسية وظلم اجتماعي حاقبالعوزة والفقراء والتهميش الفاحش للمثقفين والوطنيين وانتعاش سجون السياسيين والمناضلين كل ذلك وما تبعه من احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين وإعلان دولتها الغاصبة في 1948م، كلها إرهاصات مهَّدت للوصول إلى نقطة اللاعودة أيَّا كان الثمن،إلى أن وصل الاضمحلال الفكري لهذا الجيلباستحلالالمؤمن دم أخيه وهو يقرأ قول نبيه الأكرم "لا يَحلُّ دمُ امرءٍ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث : كَفَرَ بعدَ إسلامهِ، أو زَنَى بعد إحصانهِ، أو قَتَلَ نفساً بغير نفس" ويرتل قول الله تعالى "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً"، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا وصلت بعض فئات المجتمع الإسلامي إلى قناعة نحو وجوب تحقيق مظهر (الخلافة) سياسيا واقتصاديا واجتماعيامهما كانت الممارسات التي تنتهجها القيادات الإسلامية المؤثرة في الساحة السياسية والميدان العسكري فتصرُّ على إعلان الولاء والطاعة لها ؟!

طرحت هذا السؤال ذات مرة في أحد المنتديات فوجدت من يُبرر لهذه الممارسات من الذبح والحرق والإغراق والتفجير وغيرها من الممارسات التي لا تتقبلها النفس السويّةفكان التبرير يوحي بأنّ ذلك من باب (الترهيب) وهو تأصيل موجود في السنة والكتاب تحت باب "الترهيب والترغيب"!؛ والشاهد في الأمر أن تلك الممارسات تدفع أعداء الإسلام الذين يتقصّدون النيل منه وأهله نحو الرهبة والاحترام!، وهناك من زجَّ لي جموعا غفيرة من وقائع التاريخ الإسلامي عبر تعاقب الخلافات التي توالت واندثرت مع سيرورة الزمن، لكن السؤال الأهم هل ترى هذه الحركات المقاتلة أن المرجع الأساس لتأصيل ممارسات (الخلافة الإسلامية) سياسيا وعسكريا هي شذر من النماذج التاريخية المختلفة لخلافات متعاقبة أكل عليها الدهر وشربأم من سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم البسيطة المتواضعة؟، لقد وجدتُآراء تقزِّم بساطة الخلافة النبوية الشريفة وتحاول أن تنتقي ما تشاء من مفاصل مؤلمة من التاريخ الإسلامي لتُبرر الممارسات اللاإنسانية تجاه من لا يؤمن بالله أو حتى على مخالفيهم من المذاهب الأخرى، وجدت أقلاما لها وزنها في الوسط الثقافي تلوي بألسنتهامفاهيم الصفوية والحشوية والوهابية والخوارج والزنادقة والكفرة وغيرها من المصطلحات التي يقذف بها على إخوانه المسلمين دون أن تكون له مرجعية تاريخية أو استيعاب لماهية ما يتفوه به، والأخطر أن اللعب بهذه المفاهيم قد يصل بالفكر والقناعة إلى القتل والانتقام والتي يُروِّج لها البعض تحت مظلة (الجهاد) وكأنّه بذلك ضمِن (صَكَّ غُفرانٍ) للجنة،وهنا نتذكر محاكم التفتيش التي انتشرت في أوروبا إبان العصورالمظلمة حينما أصبحت الكنيسة هي رجل السياسة الوحيد؛ فنصبت المشانق والمذابح في إسبانيا والبرتغال وروما وأصبح (البابا) مُمثل الرب الأوحد.

حاولت أن أجد نموذجاً يسرده التاريخ النبوي حول قيام نبي الرحمة بقطع عنق أحد من أهل الكتاب أو من المُشركين الذين ألحقوا به وبقومه الأذى والذل والمهانة وأخرجوه من داره وأهله فلم أجد، فمن أي المراجع استقى بعض المسلمين قطع الرقاب؟، قرأت في كتب التاريخ الإسلامي أن العباسيين انتقوا الثياب السوداء حدادا على مقتل علي - كرم الله وجهه - وحملوا على عاتقهم رفع راية الإسلام والعلم والمعرفة وصدقوا في ذلك زهاء خمسة قرون ونيف - وإن شهدت بعض المناوشات والنكسات في بعض الأحيان- إلا أنهم تمكَّنوا من رفع راية الدين الحنيف فحافظوا على ما وصلت إليه طلائع المسلمين الأولى حيثوصلوا إلى بلاد ما وراء النهرين "سيحون" و"جيحون" وبلاد "البربر" و"الحبشة" و"الترك" و"الصقالبة" ونشروا العلم والمعرفة بين جموع الناس وليس "بيت الحكمة" ببعيد عنّا والذي حوى عشرات الآلاف من الكتب قبل أن يُضِيعَ المغول ذلك الإرث الحضاري العظيم ويلقونها في نهري دجلة والفرات مع نهاية الوجود العباسي 1258م، ناهيك عن الإنجازات الحضارية للخلافات التي توالت على المسلمين وكانت تتقلَّد الخُلق الرفيع والتعامل الإنساني لنبي هذه الأمة، وهنا يتساءل المواطن العربي لماذا يغضُّ بعض المسلمين العرب الطرف عن التاريخ المشرق للحضارة الإسلامية منذ عهد النبوة مرورا بالعهد الراشدي فالأموي ثم العباسي وانتهاء بالخلافة العثمانية ويحاولون رسم صورة قاتمة لهذه الأمة؟.

لا يختلف اثنان في سعيهما للعدالة والتنمية والتطوير وإجزال الحقوق لكن على أن يُكرم الإنسان ويُحفظ كيانه، نحن بحاجة إلى تنقيح عدد غفير من الكتب والمناهج الدراسية وبعض المراجع الشرعية التي صدرت من علماء ودعاة ومفكرين ومؤرخين بعضهم فاض إلى ربه والبعض منهم لا زال يقبع على رؤية نمطية لا تحقق الأمن والاستقرار الإنساني، نحن بحاجة إلى تغليب أدب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كان قرآنا يمشي على الأرض في خلقه وتعامله وممارساته وسلوكياته وأسلوبه التربوي والإنساني النبيل، نحن بحاجة إلى أن تهدأ النفوس وتضم الأصابع إلى بعضها البعض والتي طالما اتهمت فئة دون أخرى منذ عهد علي ومعاوية رضي الله عنهما فدفعت الأمة نحو احتساء أقداحمن الدم القاني بلهجة البارود والرصاص عن مداد العلم والمعرفة، نحن بحاجة إلى أن نتمعن في حرقة تلك المرأة التسعينية التي كانت تحاول أن تنقذ جيل أمتها من (هولوكوست) يُراد لها سيدفع ثمنه الجميع ولسان حالها يردد "ارجعوا إلى الله".

تعليق عبر الفيس بوك