السجون الحديثة

أمل السعيديَّة

بعد انتهاء مرحلة الدراسة، يفكر الواحد فينا مليًّا بأمور تكاد تكون واحدة، الوظيفة والاستقرار الأسري، وأشياء أخرى من قبيل امتلاك سيارة، بيت. ليجد نفسه متورطاً في ارتباطات تنغِّص عليه العيش. صدق هنري ثورو حين قال: "لكني سأقول في نهاية المطاف، عش حرًّا دون ارتباطات بقدر الإمكان. ولا فرق بين أن ترتبط بمزرعة أو ترتبط بسجن المقاطعة"؛ فعندما تقتطع وكالة السيارة، أو البنك، مبلغاً من المال يُؤمن دفع قسط سيارتك الذي سيستمر لخمس سنوات، عليك أن تقبل قسراً فكرة أنَّ خمس سنوات هي مدة قصيرة جدًّا. وربما ستلتزم بعمل لا تحبه، وستتخلى عن أشياء تريدها حقًّا لإيفاء هذا الدين. أنا وجدت ضالتي قبل أن أمر بهذا كله، قرأتُ كتاب "ولدن" لهنري ثورو. وفي فصل كامل عن الاقتصاد، خرجت بكامل العدة والعتاد لمواجهة الموقف بشكل حاسم، ثورو خرج من القرية ليعيش في الغابة دون أن يمتلك أي شيء؛ "فالإنسان لا يصير غنياً إلا بقدر ما يمكنه نبذه من أشياء" وعاش على الخضراوات هناك، وبنى بيتاً بسيطاً من أحطاب الغابة، كان يقرأ باستمرار حتى إنه ساهم في عملية تحرير العبيد والوقوف في وجه أمريكا والعبودية، وألَّف كتاباً عن العصيان المدني تأثر به غاندي في وقت لاحق. تعجب ثورو من الناس الذين يوفرون أموالهم البسيطة او يقترضون المال من أجل بناء بيت كبير يشار له بالبنان، فما دخل شكل البيت في السعادة؟ اعتبر ثورو أن أهمَّ ما تحتاج إليه أجسامنا هو الاحتفاظ بالدفء؛ لذلك من المهم جدًّا أن نوفر الطعام والملبس والمأوى؛ فالإنسان عندما يشكو شيئاً، يرجع للبرد، فيتهم العالم بالبرود أو الحبيب بالبرود والأهل والأصدقاء. إنَّ لدينا مشكلة مع البرد بلا شك، فما الفرق بين الحصول على دفء يوفره بيت صغير أتمكن من الإحاطة بتكاليفه، والدفء الذي يوفره قصر بعمران يلفت كل الناس في الحارة؟! كذا الحال بالنسبة لكل الأشياء الأخرى. "إننا نوفر المال من أجل اتقاء المرض، ونمرض بسبب ذلك"، هذا يختصر الكثير في مجتمعنا.. لقد دخلتُ بنفسي بيوتاً زاهية جدًّا من الخارج ولم يتمكن أصحابها حتى اللحظة من إكمال أثاث البيت في الداخل، هذا كله بدافع الحصول على القبول الاجتماعي. ويقول ثورو في هذا الشأن: "أسوأ رذيلة قد يبديها المرء هي الإسراف، أحياناً ما أمتحن معارفي من خلال هذه الاختبارات، من بإمكانه ارتداء قبعة أو غرزتين اثنتين فقط على الركبة؟ يتصرَّف أغلبهم وكأنهم يعتقدون أن ضرراً سيلحق بنجاحهم في الحياة لو فعلوا تلك الفعلة. سوف يسهُل عليهم أن يعرجوا إلى البلدة برجل مكسورة من أن يذهبوا إليها ببنطال مقطوع. إن وقعت في الغالب حادثة لساقي رجل، بمقدوره مداواتهما، ولكن لو وقعت حادثة مماثلة لساقي بنطاله، فلا علاج لهما؛ لأنه يأخذ بعين الاعتبار ما يحترمه الآخرون، لا الجدير بالاحترام حقًّا".

يدعونا ثورو إلى عدم الثقة بالناس الذين سيضعون ثقتهم بنا لامتلاكنا سيارة من نوع معين، أو بيت فاره، أو ملابس بعلامات تجارية مسجلة لا الجدير بالاحترام حقاً وهو أنا بما أمتلك من مقومات شخصية. نستطيع امتلاك هذا كله، لكنَّ الأجدى هو تطوير ناس يستطيعون العيش في هذه البيوت وارتداء هذه الملابس. ليس من الضروي أن أعكس صوراً معينة عن التألق غير الضروري لإرضاء الآخرين، فأحتفل بزواجي مثلا في قاعة فندقية تثقل عليَّ كاهل العيش في المستقبل. نعم لقد "صار البشر أدوات لأدواتهم". لا يعني ثورو أن لا نهتم بالزينة، لكن فلتكن هذه الأشياء متصلة بحيواتنا مثلها مثل مسكن المحار حسبما يعبر.

ويختتم ثورو فصلَ الاقتصاد في كتابه بهذه الكتابة: "عندما أخذت فأسي يوماً وقطعت شجرة جوز أخضر لأنال بعض الأوتاد دافعاً إياها بحجر، ووضعتها كلها حتى تنتقع في حفرة بالبحيرة كي ينتفخ الخشب، ارتطم بصري بثعبان مخطط يجري صوب المياه، ثم رقد في القاع، دون انزعاج على ما يبدو، طيلة بقائي هناك أو لمدة تزيد على ربع الساعة، علَّه لم يخرج بعد من حالة السبات. بدا لي أنَّ الإنسان يظل لسبب ما مُماثل في حالته الوضعية البدائية ولكنه لو استشعر تأثير ينبوع الربيع يستحثه، سوف يرتفع بحكم الضرورة إلى حياة أسمى وأكثر سماوية".. لذلك يا أصدقائي القرَّاء، لا تعيشوا في حجر الثعبان من أجل إرضاء الآخرين، لا بأس بالحياة البسيطة فهي ثرية بك لا بما تملك. وعش قدرَ المستطاع شبابك كله فما تحاول توفيره اليوم من أجل الغد لن تكون حاضراً بقواك له كما أنت الآن. اشترِ سيارة تناسبك، ابنِ بيتاً بسيطاً بأثاث بسيط، سافر، أحب، واكتشف الربيع.

Amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك