من قتل الإنسان العربي؟

د. سيف بن ناصر المعمري

إن حمام الدم المستمر الذي يمر به الوطن العربي في هذه السنوات الصعبة ذكرني بحوار دار بيني وبين أحد المفكرين والوزراء السابقين في دولة عربية حين كنا نتجه معًا في سيارة واحدة بعد المشاركة في مؤتمر كان يبحث في دور التربية في إعادة بناء الإنسان العربي بعد الثورات العربية، كان خروجنا قبل صلاة الجمعة حيث كانت الشوارع في قلب هذه المدينة مكتظة تشق فيها السيارات طريقها ببطء شديد أتاح لنا فرصة كبيرة للحديث عن ما يجري أمامنا، وعما دار في المؤتمر من نقاشات بعضها عن الماضي، وبعضها الآخر عن الحاضر والمستقبل، وكان من الذين لديهم تجربة عميق في أكثر من بلد عربي تنقل فيها في مناصب أكاديمية وسياسية وخبر مراحل نموها، وتحولاتها، عندما يتكلم لا تريده أن يسكت ..وعندما يسكت تتمنى منه أن يتكلم، في العقد السابع من عمره، كنت أنظر إلى الفارق العمري بيني وبينه، وقررت أن أحاول أن اكتشف هل الظروف العربية الحالية تعبر عن فجوة فكرية بين الأجيال، أم أننا كلنا نمثل حلقات في سلسلة عربية واحدة، نظر إليّ وأنا مستغرق في مثل هذه الأفكار وبادرني قائلا:

- لقد زرت هذه المدينة عشرات المرات قبل أن تدمر ..ولم يكن لدي شك يومها -وكنت لا أزال شابا-.بأنها مدينة خلقت للحياة كغيرها من المدن العربية التي كانت قد بدأت تتنفس عهودا جديدة بعد التخلص من الاستعمار الذي كتم على نفس التطور الوطني فيها، ولكن بمرور الزمن ازداد شكي وتزعزع يقيني ..كما كثيرين ..

سكت قليلاًكمن يسترجع ذكريات طويلة مضت خلال الزيارات السابقة، كان ينظر من نافذة السيارة إلى البشر المتزاحمين الذين يمضون بسرعة في اتجاهات متعاكسة، لقد كان الوجوم يخيم على أكثرهم، ولم ينتشلنا من هذا الاستغراق إلا طفلان يضربان نافذتي طلبا لبعض المال، حينها بدا لي وكأن هذا الموقف جاء في وقته ليستفزه ليكمل الحديث الذي كان قد بدأه، نظر إليّ وقال:

- هؤلاء الأطفال منسيون ..ستجدهم في أكثر من مدينة عربية، رمزاً للإخفاق الذي يعيشه العرب ..الذين وهبهم الله مقومات القوة الاقتصادية التي لا يمكن مع وجودها أن تجد طفلا خارج المدرسة..لقد خلقوا للحياة ولم يخلقوا للموت ..وأعرف أنهم يوما ما ربما يتحولون إلى مجرمين يقتلون أعداداكبيرة من سكان هذه المدينة التي بدأت تشتم روائح الحياة منذ سنين بسيطة بعد أن انتشرت رائحة الموت في كل شوارعها وأزقتها .

- بادرته وربما ننجح من خلال هذا المؤتمر وغيره في مساعدة هؤلاء وغيرهم من الأطفال والشباب في الوطن العربي لأن يتمسكوا بالحياة بدلاً من أن يندفعوا للموت من أجل لا شيء، أو من أجل فئات لا تؤمن بحق الإنسان في الحياة.

- هذا كان أملنا أنا ومن في جيلي عندما كنا في سنكم ..كبرنا وكبر اليأس معنا ..وأصبح لدينا هدف واحد هو أن نمنع يأسنا من أن يكبر ويفتك بنا ..أصبح لدينا هاجس من أن ما هو قادم هو أسوء، ولذلك ليس هناك ما هو أجمل من حاضرنا، العربي هو الوحيد في هذا العالم الذي يجب أن يحتفل كل يوم لأنه لا يعرف إن كان الغد سيتيح له وقتا للاحتفال.

كانت حركة السيارة بطيئة جدا في شوارع هذه المدينة الضيقة، وكان سائقنا يحاول أن يهرب من هذا الازدحام حينما تتاح له فرصة ذلك، ولكن كانت المداخل في البداية تبدو سالكة..ولكن عندما يدخل فيها نفاجأ بأنها متوقفة .. بادرنا بالقول:

- لقد قضى الإنسان العربي حياته محاولاً الهروب ..ولكن لا ضوء في آخر النفق ..لا نجمة ترشده إلى الشاطئ الآمن، محتارا إلى أين يذهب، وأين يستقر، غير قادر على الوصول إلى يقين، أين الصواب؟ ومن يتبع؟ هل السياسي الذي يقدم له كل يوم وعودا بالحياة؟ أم رجال الدين الذين يقدم بعضهم له صكوك توصله إلى الجنة؟ أم بالنخب الفكرية والإعلامية التي بعضها يحاول أن يقنعه بمصداقية السياسي وبعضها الآخر يقنعه بمصداقية رجال الدين؟ والواقع يقولإن الجميع لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون بهذا الإنسان؟ ومتى سينتهي استغلاهم له؟

- لكنهم يعرفون.

- ماذا يعرفون؟

- يعرفون أنهم يريدون السلطة والتحكم بهذه الجموع، التي لا ترقى في نظرهم إلى الإنسانية، فقد وصفهم أحدهم في هذه الأزمة بأنهم "جرذان"، ووصفهم آخرون بأنه "خائنون"، والبعض قال عنهم إنهم "معارضون"، ورابع قال عنهم بأنه "متطرفون"، وخامس قال عنهم بأنه "خوارج وروافض"، وسادس قال عنهم بأنهم "متخلفون"، ولذلك لابد من "سجنهم" أو "تعذيبهم" أو "قتلهم"، فأين هو الإنسان يا صديقي في هذه الرقعة الجغرافية الكبيرة؟

- يحتاج الفرد في الوطن العربي إلى معجزة ليعترف بإنسانيته.

- بل يحتاج إلى معجزة ليعترف بحقه في الحياة.

- يصبح الحفاظ على الحياة صعبًا في البيئات التي تكره الحياة، لكن كيف السبيل للحفاظ عليها، وفخاخ الموت تنصب في كل مكان حتى إنه لم يعد أحد يسأل عن من مات ولكنهم اليوم يسألون عن من لا يزال على قيد الحياة؟

- إنها حالة لا اللاشيء...حين لا يكون للإنسان هدفا إلا البقاء، وإن كان بدون شيء يضيفه للحياة؟

- أفضل له أن ينشغل بالبقاء بدلا من أن ينشغل بالتخطيط للقتل.

- المجتمعات اليوم منقسمة على نفسها، طوائف تحرض أفرادها على القتل، والحكومات لديها إرادة كبيرة لتمويل الموت لكن غريب أنه لم يكن لها إرادة لتمويل الحياة.

- هذا بالفعل يثير استغرابي، كيف تقاتل هذه الحكومات بشراسة من أجل البقاء في السلطة، كيف تنفق كل هذه الملايين في شراء الأسلحة، وتمويل مجموعات القتل بها، في حين أنها كانت تبخل بعشرة آلاف دولار لفتح مدرسة تمنع هؤلاء الأطفال الذين طرقوا نافذة سيارتنا من أن يتحولوا إلى قتلة؟

- إن لديها إرادة قوية عندما يتهددها الخطر ..لا تفكر كم سيكلفها دفعه عنها

- ليت تلك الإرادة القوية توافرت لديها في وقت السلم ..لكنا تجنبنا كل هذا الذي جرى، لكنا هزمنا ثلاثي الجهل والفقر والمرض الذي فتك بكل الآمال، وجعل من هذه المجتمعات "مجتمعات الموت".

- لقد قتل الإنسان في الوطن العربي قبل اليوم بعشرات السنين، قتل عندما أهملته الدولة ولم تراقب تردي أوضاعه بقدر ما كانت تراقب خطورته عليها، وحتى في تقدير هذا أخطأت وقادته إلى أن "يحرق نفسه" يأسا منها أو إلى أن "يفجر نفسه" انتقاما منها، وكلا المآلين يعبران عن مأساة تاريخية لم يسبق لها مثيل.

- إننا نتمزق بلا سبب حقيقي، وذلك هو جوهر المأساة

- أخشى ما أخشاه أن يضيق العالم بنا

- لقد ضاق بناء بالفعل ونحن في نظره مجرد متخلفين يملكون بترولاً ليس من حقهم، وفي سبيل الحصول على هذا البترول وعوائده لا يهم العالم لو أبيد العرب عن بكرة أبيهم

- أعود وأسأل ما السبيل إلى الخلاص

- أعتقد أنه يجب علينا أن نظل طويلا قبل أن نهتدي إلى حقيقة أنفسنا، ربما يكون هذا الضلال هو بداية الخلاص، وربما يقربنا هذا الذي يجري ..بعد أن تباعدنا طويلا..فلا شيء أقوى من العذاب المشترك لتقريب العرب من بعضهم البعض.

- لكنني أخشى أن يؤدي تكاثر المصائب هنا وهناك في مختلف البلدان، وبمختلف الأشكال إلى أن تجعل الإنسان لا مباليا لشيء حتى لمنظر القتل حيث تحل به سعادة جنونية غريبة المذاق لمجرد أن آخرين قتلوا ممن يراهم مخالفين أو مختلفين عنه من أبناء وطنه أو أمته.

- ذلك يحدث بالفعل ..وهو نتاج لما يمكن أن أسميه بـ"تنمية الموت" التي جعلها البعض هدفاً..وظنوا أنها لن تطالهم ...وسيظلون بمأمن منها.

- إذن السبيل للخلاص معقد

- وهل هناك شيء غير معقد اليوم في الوطن العربي، إن الأخطاء تتوالد ..وما نعيشه اليوم هو نتاج خطأ واحد، لكن لا شك عندي أنه إذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى بشرط أن نضمن له ظروف لا تجعله ينتكس،

- وما الظروف التي تضمن ذلك؟

- سأجيبك كما أجاب الأب أبناءه في إحدى روايات نجيب محفوظ حين سألهم نفس سؤالك.

- فما كانت إجاباتهم؟

- أجاب الابن الأكبر: لا أمل بغير القانون.

- وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب.

- وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحب

- وهل اقتنع الأب بما قالوا.

نظر إليّ والسيارة تقف على مدخل المطار ..وهو يهم بفتح الباب ..ابتسم في وجوههم وقال "لا بد ...من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته".

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك